حين يتحوّل الحرم المكي إلى “منطقة تفتيش” بدل أن يكون واحة للسكينة

بوشعيب البازي

Screenshot

من المفترض أن يكون الحرم المكي الشريف أكثر بقاع الأرض طمأنينة ورحمة. لكن، في مشهدٍ متكرر خلال مواسم الحج والعمرة، تحوّل المكان الذي يُفترض أن تفيض فيه السكينة إلى ساحة انفعال أمني غير مبرّر، حيث تظهر بين الحين والآخر لقطات مصوّرة تُظهر رجال أمن يتعاملون بخشونة مفرطة مع المعتمرين والحجاج، وكأنهم أمام مظاهرة وليس أمام مؤمنين جاؤوا ليؤدوا عبادة العمر.

في تلك اللقطات التي اجتاحت وسائل التواصل، ترى الحاج المرهق من السفر والمسافات، يُدفع بيدٍ غليظة بدلاً من أن يُرشد بابتسامة. وترى المعتمرة التي تقف لالتقاط أنفاسها، تُؤمر بالتحرّك كما لو كانت “تُعطّل حركة المرور” لا تسعى إلى الكعبة.

من عبادة السكينة إلى أمن الانفعال

المفارقة أن هؤلاء الحجاج لم يأتوا لطلب رفاهٍ دنيوي، بل جاءوا إلى “بيت الله الحرام”، الذي يفترض أن يكون ملاذًا للقلوب المرهقة لا ساحة للتوتر البشري.

لكن يبدو أن “التكوين الأمني” لبعض رجال الحرم لم يُدرّس في مادته الأولى أن التعامل مع زوار البيت الحرام ليس كالتعامل مع جمهور ملعب كرة أو تظاهرة جماهيرية.

هناك خيط رفيع بين “حفظ النظام” و“كسر الخشوع”، وبين “تأمين الحشود” و“إهانة الزوار”، ويبدو أن هذا الخيط الدقيق تمزّق في لحظات كثيرة.

منهج التدريب: الانضباط بلا روح؟

حين ترى تلك التصرفات، يتبادر إلى الذهن سؤال بسيط: هل المشكلة في التعليمات أم في من يُنفذها؟

إذا كانت التعليمات صارمة، فربما التكوين التربوي والإنساني ناقص. لأن رجل الأمن في الحرم ليس مجرد موظف نظامي، بل هو ممثل لصورة الإسلام في لحظة عبادة عالمية.

كيف يمكن أن يمدّ يده بعنف على حاجّ جاء من أقصى الأرض ليقول “لبيك اللهم لبيك”؟

الخطأ هنا ليس فقط سلوكياً، بل حضارياً ودبلوماسياً. فكل صفعة أو دفع أمام الكاميرات تتحول فورًا إلى “أزمة صورة” تمسّ بلدًا يُفترض أنه حامي الحرمين الشريفين، لا باعث القلق فيهما.

حين يفقد الأمن معناه

من المفارقات أن كلمة “أمن” في أصلها اللغوي تعني الطمأنينة، لكن مشهد الحرم في بعض المقاطع الأخيرة بدا أقرب إلى “توتر منظم”.

ربما آن الأوان لأن يُدرّس في أكاديميات التكوين الأمني درس بسيط بعنوان “حين ترفع صوتك في الحرم، فأنت تُسكت الخشوع.”

ولعل هذا الدرس البسيط وحده كافٍ لتذكير البعض أن أمن الحرم ليس مجرد إدارة جموع، بل رعاية أرواح.

رسالة إلى المعتمرين والحجاج القادمين

الواقعية تقتضي اليوم شيئًا من الحذر. ليس لأن بيت الله يضيق بزائريه، بل لأن سلوك بعض القائمين على تنظيمه يحتاج إلى إعادة تهذيب.

وربما من الحكمة – قبل شدّ الرحال – أن نتأمل قليلًا وننتظر كثيرًا، إلى أن تتضح الرؤية ويُعاد الاعتبار لقدسية المكان ومعناه. فالحج والعمرة لا يُقاسان بعدد التأشيرات، بل بما تبقّى في القلب من سكينة بعد الطواف.

وإذا كان الأمن في الحرم لا يمنح تلك السكينة، فالمشكلة ليست في الزحام، بل في الذين نسوا أن بيت الله لا يُدار بالعصا، بل بالصبر والرحمة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com