عفو رئاسي عن بوعلام صنصال… السيادة الجزائرية بين الكبرياء والحكّة الدبلوماسية

مجدي فاطمة الزهراء

Screenshot

يبدو أن كاتبًا واحدًا قادر على أن يربك نظامًا بأكمله. فالأديب الجزائري بوعلام صنصال، المعروف بلسانه الحاد وكتاباته التي لا تساير رواية السلطة، وجد نفسه فجأة في قلب أزمة دبلوماسية بين الجزائر وبرلين، بعد أن تقدّم الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير بطلب رسمي لمنحه عفوًا رئاسيًا.

طلبٌ وصفته الدبلوماسية الألمانية بـ«الإنساني»، لكن في أروقة الحكم بالجزائر، يُنظر إليه على أنه صفعة على وجه السيادة و«إهانة وطنية» تمسّ الكبرياء الذي يتغذى عليه النظام العسكري منذ عقود.

بين العفو والإهانة… عقدة السيادة في أوجها

منذ سنوات، يُقدّم النظام الجزائري نفسه كآخر قلاع «الكرامة الوطنية» في وجه ما يسميه «الإملاءات الغربية». تسير الرواية الرسمية على إيقاع واحد، «نحن لا نتلقى الأوامر من أحد». لكن ما العمل حين يأتي الطلب من رئيس ألمانيا نفسه؟

قبول العفو يعني أن القضاء الجزائري قابل للّين الخارجي، ورفضه يعني تأكيد العزلة السياسية التي يعانيها النظام في خضم تراجع اقتصادي داخلي.

مصدر مقرب من الرئاسة صرّح — خلف الكواليس طبعًا — بأن المؤسسة العسكرية ترى في الطلب الألماني «اختبارًا خطيرًا»، لأنها تخشى أن يتحول «الاستثناء الثقافي» إلى سابقة سياسية.

فإذا رضخ النظام من أجل كاتب، فماذا سيفعل غدًا عندما تطلب أوروبا إطلاق سراح الصحافيين أو النشطاء السياسيين؟ الخط الأحمر بالنسبة للعسكر واضح: لا أحد يملي علينا من الخارج… حتى لو كان ذلك باسم الأدب والإنسانية.

دبلوماسية الحرج والتمثيل المسرحي

الجزائر اليوم تمارس نوعًا من التمارين البلاغية في السيادة. الرئاسة تتحدث بحذر عن الطلب الألماني، كمن يلمّح دون أن يقرّ، تختبر الرأي العام وتنتظر أن ترى إن كانت المؤسسة العسكرية ستصاب بالحساسية من كلمة «عفو».

في المقابل، الإعلام الرسمي يُعيد تدوير الجملة الأبدية: «الجزائر دولة مستقلة ذات قرار سيادي»، في حين يعلم الجميع أن أي قرار كهذا يمرّ عبر ميزان دقيق من توازنات الجنرالات وهاجس الصورة الخارجية.

إنها سياسة «الخطاب المزدوج»: في الداخل، شتائم ضد الغرب، وفي الخارج، مفاوضات هادئة لحماية صادرات الغاز وتجنب العقوبات.

هكذا يتحدث النظام بلغة الرفض أمام الكاميرات، ثم يكتب رسائل الاعتذار خلف الستار.

بين المطرقة الأوروبية وسندان الثكنة

يقف الرئيس عبد المجيد تبون اليوم في وضع لا يُحسد عليه: إذا رفض العفو، سيُتهم بالجمود والتعنت ويؤكد صورة النظام المنغلق الذي يعيش في زمن آخر.

وإذا قبله، سيُتهم بالانبطاح أمام «الألمان» وسيُعتبر خائنًا لخط السيادة الذي يقدّسه الجنرالات. الخيارات كلها خاسرة، والنتيجة واحدة: تبون سيخرج أضعف مما دخل، سواء في نظر الأوروبيين أو في نظر جنرالاته.

وليس من المبالغة القول إن بوعلام صنصال، دون أن يقصد، تحوّل إلى رهينة سياسية بين أوروبا التي ترفع شعار حرية التعبير، ونظام يرى في كل طلب خارجي مؤامرة استعمارية جديدة.

السيادة بين الخطاب والواقع

في بلد يعاني من بطالة خانقة، وتدهور في القدرة الشرائية، وتململ اجتماعي في الولايات الداخلية، يصبح الحديث عن «الإهانة الدبلوماسية» نوعًا من الترف الوطني.

فالناس يريدون ماءً وكهرباء وفرص عمل، بينما النظام منشغل بحراسة «هيبة» دولة تهتزّ أمام طلب عفو لكاتب. هكذا تتحول السيادة إلى شعار دعائي أكثر منها ممارسة سياسية، وتُستبدل الكرامة الشعبية بـ«كرامة المؤسسة»، حتى وإن كانت المؤسسة غارقة في الارتباك.

بين الأدب والسياسة، من الضحية الحقيقي؟

في النهاية، بوعلام صنصال ليس سوى مرآة تُظهر هشاشة النظام الجزائري حين يُطلب منه أن يتصرّف كدولة طبيعية.

فبينما يتفاخر بالاستقلال والسيادة، يثبت أنه سجين روايته الخاصة: رواية الثورة، العسكر، والمظلومية الأبدية. وإذا ما قرّر النظام أخيرًا منح العفو، فسيقدّمه، كالعادة، في إطار «مبادرة إنسانية نبيلة من فخامة الرئيس».

لكن الحقيقة ستظل معروفة للجميع ، لم يكن العفو «كرمًا»، بل تنازلًا مغلفًا بورق السيادة. وبين برلين والمرادية، يبدو أن الأدب الجزائري صار أخطر من السياسة نفسها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com