عفو على المقاس: كيف حوّل تبون “الرحمة الرئاسية” إلى صفقة علاج سياسي؟

بقلم: بوشعيب البازي – بروكسيل

Screenshot

يبدو أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وجد أخيرًا الدواء الشافي لعلله السياسية… في المستشفيات الألمانية. فالعفو الرئاسي الذي منحه فجأة للكاتب بوعلام صنصال لم يكن فقط “لفتة إنسانية” كما قيل، بل وصفة طبية سياسية مركّبة، جمعت بين الضغط الخارجي والضرورة الشخصية، وانتهت بفضيحة داخلية هزّت أركان السلطة.

الحدث الذي بدأ كـ«مبادرة رئاسية نبيلة» انتهى إلى ما يشبه صفقة علاج سياسي باليورو الأوروبي، بعدما تبين أن “الرحمة” عند النظام الجزائري يمكن أن تُستورد مثل الأجهزة الطبية: لا تُفعّل إلا عند الطلب الخارجي.

العفو الذي أخرج النظام من ملابسه

حين أعلن قصر المرادية أن تبون أصدر عفوًا خاصًا عن الكاتب بوعلام صنصال، أحد أكثر الأصوات انتقادًا للنظام، خُيّل للبعض أن الجزائر دخلت عهد الانفتاح. لكن سرعان ما اكتشف الجزائريون أن الانفتاح الوحيد الذي تم كان باتجاه برلين.

القرار جاء، كما قيل، استجابة لطلب “إنساني” من الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير. جميل. لكن الجزائريين تساءلوا: هل الإنسانية تُفعّل فقط عند الطلب الدولي؟

لماذا لا يتحرك تبون بـ«رحمته الرئاسية» تجاه الباحث محمد الأمين بلغيث أو الصحافي عبد الوكيل بلام، أو العشرات ممن يقبعون في السجون لأنهم كتبوا تغريدة لا تُرضي الجنرالات؟

«الرحمة المشروطة»… صناعة جزائرية بامتياز

ردود الفعل الداخلية كانت أقرب إلى عاصفة. المعارضة رأت في الخطوة “رسالة واضحة بأن الرحمة في الجزائر تُستورد من الخارج”، بينما حاولت أحزاب الموالاة تحويلها إلى درس في “الحكمة السياسية”.

لكن لا أحد استطاع تفسير كيف أصبحت برلين أرحم بالكتاب الجزائريين من قصر المرادية نفسه.

السياسي جيلالي سفيان، رئيس حزب “جيل جديد”، لخّص المشهد بعبارة موجعة:

“إذا كان الرئيس يعفو تحت ضغط إنساني خارجي، فعليه أن يبدأ بالاستماع إلى النداءات الإنسانية القادمة من الداخل.”

أما عبد الرزاق مقري فكان أكثر قسوة، واعتبر أن “إطلاق سراح صنصال بعد تدخل أجنبي مصيبة أعظم من إطلاقه دون تدخل”، مضيفًا بسخرية أن “البلد صار يُدار بنظام المناولة بين باريس وبرلين”.

حين تتحول السيادة إلى خدمة “VIP”

التقارير الإعلامية كشفت عن كواليس مثيرة: فرنسا حاولت أولاً التوسط عبر إيطاليا، لكن تبون رفض المقترح الإيطالي – ربما لأن البيتزا لم تعجبه سياسيًا – قبل أن تفتح ألمانيا قناتها الخاصة، بثقة ناعمة ولغة “التفاهم المتبادل”.

وراء الكواليس، تقول مصادر فرنسية إن العفو لم يكن مجاملة دبلوماسية، بل صفقة غير معلنة. فتبون الذي يعاني من مشاكل صحية مزمنة منذ إصابته بكوفيد-19 في 2020، يحتاج إلى متابعة طبية دقيقة في ألمانيا. والصفقة كانت بسيطة: عفو عن صنصال مقابل فتح أبواب المستشفيات الألمانية أمام تبون دون ضجيج.

هكذا تحوّل القرار “الإنساني” إلى علاج سياسي بالمقايضة، حيث أصبح كل ملف حقوقي قابلًا للتفاوض… مقابل إقامة فاخرة في برلين.

غضب الشارع… وسخرية إلكترونية

الجزائريون لم يفوّتوا الفرصة. فصفحة الرئاسة امتلأت بتعليقات لاذعة، بعضها كتب:

“عمي تبون، إذا كانت ألمانيا تُقرّر من يُعفى عنه، فهل نبعث لك قائمة المرضى لتعرضها على المستشار الألماني أيضًا؟”

وسخر آخرون من “الرحمة الانتقائية” قائلين إن الرئاسة باتت “توزّع العفو مثل اللقاحات… حسب جنسية من يطلبها”.

أما الهاشتاغ الأكثر تداولًا فكان ببساطة: #الرحمة_تحتاج_تأشيرة.

انقلاب في سلم القيم

العفو عن صنصال، بدل أن يُظهر وجهًا إنسانيًا للنظام، عرّى أولوياته. فبينما يُترك المثقفون والصحافيون الوطنيون خلف القضبان، يُفرج عن كاتب يصف بلاده بالمنغلقة والمريضة… فقط لأن ألمانيا ضغطت.

إنها لحظة رمزية بامتياز: الوطن الذي يعفو عن منتقديه حين يطلب الغير، ويعاقب أبناءه حين يطلبون الكلمة.

من الرحمة إلى الفضيحة

النتيجة: مأزق سياسي داخلي، تآكل في المصداقية، وانكشاف لمنظومة حكمٍ ترى في القرارات السيادية مجرّد أوراق تفاوض شخصية. فالملف كشف أكثر مما حاول تبون إخفاءه: أن الجزائر تُدار بمنطق “البقاء على قيد النظام”، لا “البقاء على قيد الوطن”.

في النهاية، لم يكن العفو عن بوعلام صنصال سوى انعكاس لعفو آخر… عفو النظام عن نفسه من المسؤولية السياسية.

وبينما يواصل الرئيس رحلاته العلاجية إلى ألمانيا، يواصل الجزائريون علاج خيبتهم اليومية بجرعات من السخرية… لأنها الوسيلة الوحيدة المتبقية للتنفّس في جمهورية تُدار بالتخدير السياسي المستورد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com