في زمنٍ تحاول فيه الجزائر وباريس تبادل بوادر حسن النية، اختارت السلطات الجزائرية أن تقدّم لفرنسا “باقة ورد دبلوماسية” على طريقتها الخاصة: احتجاز سفينة ركّاب فرنسية في ميناء العاصمة، بدعوى أنّ مفتشاً ما لمح “عيباً تقنياً” قد يمنعها من الإبحار. حدث ذلك في وقتٍ يُفترض أن البلدين يمسحان غبار سنة كاملة من القطيعة، ليجد الدبلوماسيون أنفسهم فجأة أمام مشهد أقرب إلى كوميديا بحرية عنوانها: “إعادة الدفء… مع قليل من الصدأ.”
عيوب تقنية… أم رسائل سياسية مكتوبة بخط رديء؟
القصة بدأت الأربعاء الماضي، حين أُبلغت سفينة “جون نيكولي” – التابعة لشركة “كاورسيكا لاين” – بأنها لن تتحرك من مكانها. السبب الرسمي: نقائص تقنية سجلها المفتشون خلال عملية تفتيش روتينية. سببٌ وجيهٌ في عالم الملاحة، طبعاً، لكنه في عالم العلاقات الجزائرية-الفرنسية يبدو أقرب إلى “تعطّل الفرامل في يوم الامتحان”. قانونياً، كل شيء سليم. سياسياً؟ المسألة تستحق أكثر من مجرد رفع حاجب استغراب.
فالعلاقات بين البلدين تمرّ بمرحلة “إعادة تشغيل النظام”، وبعد الإفراج عن الكاتب بوعلام صنصال بطريقة بدت مقصودة لتوجيه “إشارة حسن نية”، كان يُفترض أن الأحداث تسير نحو الهدوء. لكنّ حادثة السفينة بدت كالعادة: خطوة للأمام، وثلاث قفزات للخلف.
بين باريس والجزائر… محاولة مصالحة تتعثر على رصيف الميناء
باريس، التي بدأت تتلقى رسائل إيجابية من الجزائر، بدا وكأنها تلتقط أخيراً موجة “التصالح”. رئيس الاستخبارات الخارجية الفرنسية، نيكولا ليرنر، خرج ليبشر الأوروبيين بأن الجزائر ترغب في “فتح صفحة جديدة”. لكنّ الاحتفاء لم يدم طويلاً: بعد أيام فقط، جاء احتجاز السفينة ليعيد الجميع إلى السؤال الأبدي: هل هناك فعلاً جهة واحدة تقرّر في الجزائر، أم أن كل جهاز يكتب سياسته الخاصة؟
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فإن الجزائر تخوض توتراً متزامناً مع المغرب وإسبانيا ومالي. لذلك، فإن فتح جبهة جديدة مع فرنسا يساوي ـ بلغة السياسة ـ محاولة إطفاء حريق بواسطة قارورة بنزين.
دبلوماسية “شدّ الحبل”… بنسخة 2025
التوتر بين البلدين ليس جديداً. فمنذ صيف 2024 تدهورت العلاقات بشكل غير مسبوق، وتبادلت العاصمتان التصريحات والمواقف الحادة، واستُدعيت السفراء كما لو كان ذلك طقساً موسميّاً. ومع هذا الإرث من الاحتقان، كان يُفترض أن تتفادى الجزائر أي خطوة قد تُقرأ كتعمّد للتصعيد. لكن يبدو أن الإدارة الجزائرية اعتادت استخدام الإجراءات التقنية لتحقيق أهداف سياسية، حتى لو كلّف الأمر تعطيل سفينة محمّلة بالركاب.
في باريس، تؤكد مصادر دبلوماسية أنّ قنوات اتصال غير رسمية – يقودها مسؤول جزائري سابق يقيم على ضفاف السين – تعمل جاهدة لإقناع القيادة الجزائرية بأنّ سوء التفاهم ليس في مصلحة أحد. بل إن الحديث بدأ يدور عن لقاء محتمل بين ماكرون وتبون خلال قمة العشرين. لكن من الصعب تخيل مصافحة دافئة بينما تقف سفينة فرنسية “محتجزة” في الميناء كضحية جانبية لارتباك سياسي مزمن.
فرنسا: رسائل تهدئة… تقابلها صفّارات إنذار بحرية
في باريس، ظهر وزير الداخلية لوران نوينز بخطاب هادئ يدعو إلى تجنب “سياسة ليّ الذراع”، في تلميح واضح لخطاب وزير سابق أحبّ التصعيد أكثر مما أحبّ التهدئة. لكنّ حادثة السفينة قد تعيد المزاج المتوتر إلى الواجهة، خصوصاً مع بحث الأوروبيين عن موطئ قدم أوسع في شمال أفريقيا، وتنافس إيطاليا وإسبانيا على الملفات التي تعتبرها باريس “مساحات نفوذ تاريخية”.
الجزائر: “القانون فوق الجميع”… إلا إذا كان الظرف سيئاً
على الجانب الجزائري، تصرّ أصوات رسمية على أن القضية تقنية بحتة ولا تحمل أي رمزية سياسية. لكنّ هذا التفسير يبدو أقرب إلى القول إنّ انقطاع الكهرباء في يوم الانتخابات “محض صدفة”. فالتوقيت حساس، والرسالة ـ سواء كانت مقصودة أم لا ـ وصلت إلى باريس بشكل مباشر: التهدئة ممكنة، لكن بشرط أن تتحرك السفن وفق مزاج الميناء.
سفينة صغيرة… وموجة كبيرة من الريبة
احتجاز “جون نيكولي” يشبه اختباراً مبكراً لمعرفة ما إذا كانت الجزائر وفرنسا مستعدتين حقاً لفتح مرحلة جديدة. الحدث صغير تقنياً، كبير سياسياً، ويكفي لإعادة عقارب ساعة التوتر إلى الوراء. فالعلاقات بين البلدين ليست بحاجة إلى أزمات جديدة؛ إنّها تحتاج إلى صيانة دورية ودبلوماسية محكمة… لا إلى مفتش يقرر مصير قنصلية كاملة بجرّة قلم.
وفي النهاية، قد تُفرج الجزائر عن السفينة قريباً، لكن ما لن يُفرج عنه بسهولة هو الشعور المتجدد بأن الثقة بين البلدين لا تزال تعيش في منطقة رمادية… لا تطمئن لرحلة طويلة، ولا تسمح بإبحار آمن.