المغرب ينتقل من استيراد السلاح إلى تصنيعه: استراتيجية دفاعية جديدة ترسّخ السيادة التكنولوجية والاقتصادية
بوشعيب البازي
في خطوة وُصفت بـ”التحول المفصلي” في مسار تحديث قدراته العسكرية وتعزيز أمنه القومي، كشف المغرب، الجمعة، عن حزمة واسعة من القرارات التشريعية والاستثمارية التي تمثل بداية فعلية لإرساء صناعة دفاعية وطنية متكاملة. هذا الحراك، الذي لم يعد يقتصر على تحديث ترسانة القوات المسلحة الملكية، يؤشر لانتقال البلاد من مرتبة مستهلك للتجهيزات العسكرية إلى شريك فاعل في إنتاجها وتطويرها، اعتماداً على رؤية استراتيجية بعيدة المدى تهدف إلى تعزيز السيادة التكنولوجية والاقتصادية.
10 مشاريع دفاعية جديدة… وبداية مسار تصنيع محلي
وبحسب تقرير برلماني استند إلى معطيات وزارة الدفاع، منح المغرب تراخيص لـ10 مشاريع استثمارية جديدة في قطاع الصناعات الدفاعية، بقيمة إجمالية تبلغ 260 مليون دولار، ما يفتح الباب أمام جيل جديد من الاستثمارات الخاصة في قطاع كان حكراً لعقود على الواردات الخارجية.
وتغطي هذه المشاريع مجالات دفاعية متعددة، من الأنظمة الإلكترونية إلى التجهيزات التكتيكية، في خطوة تؤكد انفتاح المملكة على بناء قاعدة صناعية دفاعية معززة. كما كشف التقرير عن وجود 5 مشاريع إضافية في طور الدراسة أو اللمسات النهائية، ما يعكس دينامية قوية تهدف إلى تأمين احتياجات القوات المسلحة الملكية عبر التصنيع المحلي بدل الاعتماد شبه الكلي على الخارج.
زيادة تاريخية في ميزانية الدفاع… والرسالة واضحة
تزامن هذا الإعلان مع مصادقة البرلمان على رفع ميزانية الدفاع إلى 15.7 مليار دولار لعام 2026، بزيادة تصل إلى 18 بالمئة مقارنة بميزانية 2025. وتُقرأ هذه الزيادة في سياق استراتيجي أوسع لا يرتبط فقط باقتناء المعدات، بل بما هو أهم: دعم التصنيع المحلي وبناء بنية تحتية دفاعية وطنية قادرة على الاستمرار.
وتشكل هذه المخصصات المالية الضخمة التزاماً طويل المدى من الدولة بدعم الصناعات الدفاعية، من خلال تمويل المشاريع، وتحسين الإطار القانوني، وتطوير قدرات البحث والتطوير، وتنشيط الاستثمار الخاص.
تشريعات جديدة لجذب الاستثمار… وآلية “الصفقة مقابل الاستثمار”
ولم يقتصر التوجه المغربي على ضخ الأموال، بل اعتمد إصلاحات قانونية تستهدف خلق بيئة مناسبة للمستثمرين. أبرز هذه التدابير:
- توسيع الإعفاء الضريبي المؤقت ليشمل أنشطة الصناعة الدفاعية، مما يقلل من التكلفة الأولية للمشاريع ويجذب فاعلين دوليين.
- المصادقة على مرسوم الصفقات العمومية (مارس 2023)، الذي يرسّخ آلية “الصفقة مقابل الاستثمار”: أي أن التعاقد مع وزارة الدفاع مشروط بضخ استثمارات داخل المغرب، ما يضمن نقل التكنولوجيا والخبرة وتكوين اليد العاملة المحلية.
هذه المنظومة التشريعية الحديثة تعكس مقاربة متكاملة لا تعتمد فقط على الإنفاق الحكومي، بل تمتد إلى تحفيز القطاع الخاص وتحويل المغرب إلى منصة صناعية دفاعية إقليمية.
منطقتان صناعيتان للدفاع… وبنية تحتية قيد الإنجاز
وفي يونيو الماضي، أعلنت المملكة عن إطلاق مشروع إنشاء منطقتين للتسريع الصناعي الدفاعي مخصصتين لمعدات الأمن وأنظمة الأسلحة، بعد المصادقة على أربعة مشاريع كبرى في المجال العسكري. وأكد التقرير البرلماني أن الأشغال التحضيرية انطلقت بالفعل، على أن تكون البنى التحتية جاهزة لاستقبال المستثمرين قبل نهاية 2026.
هذه المناطق الصناعية ليست مجرد مصانع، بل نواة لمنظومة دفاعية متكاملة تجمع الشركات، والموردين، والمختبرات، ومراكز البحث، ما يخلق بيئة إنتاج عالية الكفاءة ومهيأة للنمو السريع.
السيادة الدفاعية… مشروع اقتصادي بقدر ما هو عسكري
تسعى الاستراتيجية الجديدة إلى تقليل التبعية للخارج في شراء وصيانة وتطوير العتاد العسكري. فالمغرب يدرك أن التحكم في سلسلة التوريد الدفاعية هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي، خصوصاً في عالم يتسم بتقلبات جيوسياسية متسارعة وتعقيدات كبيرة في سوق السلاح.
لكن الأهداف ليست أمنية فقط؛ فالمغرب يتجه أيضاً نحو:
- خلق مئات الوظائف عالية القيمة في الهندسة والتصنيع.
- تقليص فاتورة الصيانة المكلفة التي كانت تتم غالباً في الخارج.
- تطوير منظومة بحث وابتكار دفاعية قادرة على إنتاج حلول محلية متقدمة.
- تحويل الصناعة الدفاعية إلى محرّك اقتصادي جديد موازٍ للصناعات التقليدية.
نحو تحول صناعي دفاعي كامل
الرسالة التي يرسلها المغرب من خلال هذه القرارات واضحة: الانتقال من عصر التسلح بالشراء إلى عصر التصنيع المشترك والإنتاج المحلي. إنها رؤية تتجاوز منطق التحديث إلى منطق السيادة، وتعكس وعياً متزايداً بأن القوة اليوم لا تُقاس فقط بنوعية الأسلحة، بل بقدرة الدولة على تصنيعها وصيانتها وإدارتها ذاتياً.
ومع بدء تفعيل المشاريع، واستكمال البنية التحتية، ودخول الحوافز التشريعية حيز التنفيذ، يبدو أن المملكة تضع نفسها على مسار جديد عنوانه: صناعة دفاعية مغربية تنافسية، مستدامة، وذات بعد استراتيجي عميق