باريس تحتفي بالمغرب… حين تتحول الذكرى الوطنية إلى مرآة لعلاقة تاريخية متجددة
ريم المدغري
في قلب العاصمة الفرنسية، داخل فضاءات “بيت المغرب” التي لطالما احتضنت مشاهد من الذاكرة المشتركة، نظّمت الجالية المغربية احتفالية استثنائية بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء والذكرى السبعين لعيد الاستقلال.
غير أن ما بدا في ظاهره أمسية احتفال ووفاء، حمل في عمقه دلالات سياسية وثقافية أعمق بكثير، خاصة أنه يأتي بعد القرار الأممي 2797 الذي أعاد رسم ملامح النقاش الدولي حول الصحراء المغربية.
في باريس، كما في بقية مدن المهجر، تفرض المحطات الوطنية نفسها ليس فقط كتقليد رمزي، بل كمرآة للعلاقة المتينة بين العرش والشعب، حتى على بعد آلاف الكيلومترات من الوطن الأم.
مشهد مؤثر: رايات ترتفع… وذكريات تستعاد
حمل الحاضرون—ومن بينهم مشاركون سابقون في المسيرة الخضراء—الراية المغربية بفخر، ورددوا النشيد الوطني والأغاني التي شكلت ذاكرة أجيال.
كان المشهد خليطاً بين الامتنان والاعتزاز، لكنه أيضاً لحظة من لحظات التعبئة الهادئة التي تميز مغاربة الخارج، عندما يتعلق الأمر بقضية وطنية لا تقبل المساومة.
ووسط هذه الأجواء، بدا واضحاً أن الجالية المغربية في باريس لم تكن تحتفل فقط بذكرى تاريخية، بل تعيد التأكيد على دورها كفاعل في “الدبلوماسية الشعبية” التي تكمّل المسار الرسمي.
من المسيرة الخضراء إلى “عيد الوحدة”: تحول في قراءة اللحظة
في كلمتها، لم تكتف القنصل العام حبيبة الزموري بتعداد الرموز، بل وضعت المناسبة في سياقها الجديد.
فالقرار التاريخي المتعلق بالصحراء، وما تلاه من إعلان 31 أكتوبر عيداً للوحدة، أضفى بعداً سياسياً إضافياً على الاحتفال.
لم يعد الأمر مجرد تخليد لماضٍ مجيد، بل إعلان تجديد للالتزام الوطني وتأكيد على أن وحدة المغرب ليست شعاراً ظرفياً، بل خياراً استراتيجياً يجد امتداده في السياسات التنموية وفي رؤية الملك محمد السادس.
وأبرزت القنصل أن المسيرة الخضراء لم تكن عملاً رمزياً فقط، بل تجربة سياسية واجتماعية أظهرت للعالم قوة التلاحم المغربي—وهي نفس القوة التي تستثمرها المملكة اليوم في تعزيز موقعها كفاعل إقليمي وقاري.
الجالية المغربية… بين الذاكرة والمستقبل
كان لافتاً أن الزموري شددت على الدور المحوري للجالية المغربية، ليس فقط كامتداد سكاني، بل كحامل لقيم وقوة ناعمة.
أفراد الجالية، كما أكدت، يمثلون المغرب في فضاء سياسي وإعلامي فرنسي معقد، ويؤدون دور “سفراء غير رسميين” يعكسون تنوع المغرب وتسامحه وانفتاحه.
وقد بدا هذا الحضور جلياً في تنوع الضيوف، وفي شهادات المتطوعين القدامى، وفي نقاشات الندوة الفكرية التي أعقبت العرض الوثائقي.
الوثائقي والندوة: حين تُستعاد الذاكرة بدقة الباحثين
العرض الوثائقي لم يكن مجرد استعادة لصور قديمة. لقد قدّم سرداً بصرياً لرحلة تمتد من 6 نونبر 1975 إلى الدينامية التنموية في الجنوب المغربي اليوم، وصولاً إلى القرار 2797 الذي عزز الموقف المغربي أمام المنتظم الدولي.
تلا العرض نقاش أكاديمي قاده الجامعي محمد مريزيقة، أعاد فيه قراءة المسيرة الخضراء بعيداً عن العاطفة، ضمن سياق التحولات الاستراتيجية التي عرفها المغرب على مدى عقود.
ثم جاءت شهادات المتطوعين القدامى، التي شكلت لحظة صمت وفخر داخل القاعة، كأن الزمن يعود نصف قرن إلى الوراء ليعيد سرد ملحمة عاشها المغرب بقلوب موحدة.
فرنسا والمغرب… علاقة تتجدد عبر الذاكرة
إلى جانب الاحتفال بالمسيرة الخضراء، حرصت القنصل العام على إبراز البعد السياسي للعلاقة المغربية–الفرنسية، مذكّرة بالموقف الواضح لفرنسا الداعم لمغربية الصحراء، كما أعيد التأكيد عليه في أعلى مستويات الدولة الفرنسية.
الاحتفالية، بهذا المعنى، لم تكن مجرد لقاء ثقافي، بل مناسبة للتذكير بأن العلاقات بين البلدين ليست فقط علاقات مصالح، بل علاقات ذاكرة إنسانية وتاريخ مشترك وجالية تشكل جسراً حياً بين الضفتين.
باريس لم تكن تحتفل فقط… بل كانت تعيد رسم صورة المغرب المعاصر
ما جرى في بيت المغرب بباريس يعكس تحولاً مهماً:
الجالية المغربية لم تعد شاهداً على التاريخ، بل أصبحت فاعلاً في تشكيل سرديته.
المسيرة الخضراء وعيد الاستقلال هما جزء من الذاكرة الوطنية، نعم، لكنهما أيضاً جزء من الحاضر السياسي والدبلوماسي الذي يرسم ملامح المغرب في الخارج.
وفي باريس، بدت الصورتان متداخلتين: مغربٌ يحافظ على ذاكرته… ومغربٌ يبني مستقبله بثقة أكبر وشرعية أقوى