تورونتو تحتفي بالمغرب: حين يتحوّل التراث العبري إلى مرآة دبلوماسية ناعمة

سومية العلكي

لم يكن الأسبوع اليهودي المغربي في تورونتو مجرّد احتفال فولكلوري آخر يضاف إلى رزنامة الجالية المغربية بكندا. كان الحدث، بكل رمزيته ووجوهه ورسائله المضمرة، مناسبة لصياغة رواية مختلفة عن المغرب: بلدٌ لا يكتفي بإعلان احترام التعدد، بل يبنيه حجراً فوق حجر، ومعلومةً فوق أخرى، وترميماً بعد آخر، حتى صار مكوّناً بنيوياً في صورته الدولية.

في أمسية بهيجة، حضر فيها ممثلو الجالية اليهودية المغربية والمنتخبون الكنديون، أعادت سفيرة المغرب بكندا، سورية عثماني، رسم حدود هذا النموذج الذي بات يشكّل جزءاً من القوة الناعمة للمملكة. ليس فقط لأن الدستور المغربي أدرج الرافد العبري ضمن مكوّنات الهوية، بل لأن ذلك الاعتراف يجد ترجمة ملموسة في السياسات العمومية والمشاريع التراثية المنتشرة عبر مدن المملكة.

من دستورية التعدد إلى واقعية الحماية

أشارت السفيرة، بتأكيد رصين، إلى ما يعرفه الجميع ولكن كثيرين يتناسونه: التنوع ليس شعاراً يُرفع، بل سياسة تُمارس. فمن إعادة تأهيل المعابد والأحياء اليهودية، إلى صيانة المقابر، وافتتاح المتاحف – أبرزها “بيت الذاكرة” بالصويرة – يستمر المغرب في مشروع ثقافي طويل النفس، يجعل من ماضيه اليهودي جزءاً من سرديته الوطنية لا عبئاً عليها.

هذه الأوراش ليست تفاصيل هامشية، بل حلقات في سلسلة إصلاحات أعمق يقودها الملك محمد السادس، الذي أعاد للمكوّن العبري حضوره القانوني والمؤسساتي، بما في ذلك الحفاظ على المحاكم العبرية وإطلاق مركز الدراسات حول القانون العبري. خطوات كهذه لا تُصنع لالتقاط الصور، بل لتعزيز نموذج التعايش في زمن ينكمش فيه العالم على هوياته الضيقة.

في عالم مضطرب… يظهر المغرب كخطّ استواء

المفارقة التي تبرز في تصريحات السفيرة وفعاليات الحدث، أنّ المغرب يدافع عن قيم كونية في لحظة يتهدد فيها العالم بخطابات كراهية متصاعدة، ونزاعات تمدّدت حتى صارت واقعاً يومياً في نشرات الأخبار. هنا، تصبح مبادرات المملكة ليست فقط حفاظاً على ذاكرة العبّاد والمقابر، بل دفاعاً عن فكرة التعايش نفسها، كخيار استراتيجي وليس شعاراً دبلوماسياً.

المنتظم الدولي لطالما أشاد بهذا المسار، لكن حضوره في تورونتو يعكس أمراً آخر: أنّ الجالية اليهودية المغربية، رغم المسافة الجغرافية، ما زالت تنظر إلى هذا التراث باعتباره جزءاً أصيلاً من انتمائها الثقافي، لا مجرد ذكرى بعيدة.

الاستمرارية الملكية: من محمد الخامس إلى محمد السادس

يعرف اليهود المغاربة جيداً أن هذه المقاربة ليست طارئة ولا ظرفية. وقد ذكّر رئيس الطائفة اليهودية بتورونتو، سيمون كيسلاسي، بما أصبح بديهياً في الذاكرة التاريخية: أنّ ملوك المغرب، منذ محمد الخامس الذي حمى اليهود من قوانين فيشي، إلى الحسن الثاني الذي صان مؤسساتهم، وصولاً إلى محمد السادس الذي وسّع من حضورهم القانوني والثقافي، صنعوا نموذجاً مغاربياً فريداً في المنطقة.

ذلك النموذج لم يعد إرثاً وطنياً فقط، بل مادة دبلوماسية تستثمر فيها المملكة لمخاطبة العالم عبر لغة التعايش.

الرسالة الكندية: التنوع قيمة كونية

من جهتهم، لم يُخفِ المسؤولون الكنديون المشاركون إعجابهم بالدور الذي يلعبه المغرب في تعزيز احترام التنوع الثقافي والديني. بلد كندا، المعروف بدستوره المتعدد الثقافات، يجد في المغرب نموذجاً قريباً منه، لكنه يتميز بميزة قلّما تتكرر: الجذور التاريخية للعيش المشترك، لا المكتسبة حديثاً.

حين يتحوّل التاريخ إلى سياسة دولة

الاحتفاء بالتراث اليهودي المغربي في تورونتو ليس احتفالاً بالحنين، بل تذكير بأن التعايش ليس صفحة من الماضي، بل خيار دولة.

وإذا كان بعض البلدان ما زال يناقش حق الاعتراف بالتعدد، فإن المغرب اختار – منذ زمن طويل – وضعه في صلب هويته الدستورية والمؤسساتية.

لقد نجح المغرب، مرة أخرى، في تحويل ذاكرته العبريّة الغنية إلى جسر يربط بين شعوبه وجالياته وحلفائه.

وحين تصبح الذاكرة أداة دبلوماسية، فهذا يعني أن بلداً ما فهم جيداً أنّ قوته اليوم ليست فقط بما يبنيه من اقتصاد، بل بما يحتفظ به من قيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com