«كرملين بوسكورة»… حين اكتشف الإسمنت أن الدولة لم تعد تمزح

حنان الفاتحي

Screenshot

من كان يتصور أن “كرملين” بوسكورة سيسقط بهذه السرعة؟ ذلك القصر الذي كان يتباهى بحدائقه المترامية وقاعاته الباذخة، انتهى في دقائق تحت ضربات الجرافات، وكأنه قلعة من رمل لا من إسمنت تسلل بهدوء إلى منطقة فلاحية.

لكن خلف هذا المشهد المثير للغبار، تكمن قصة أكبر: قصة دولة قررت أخيرًا أن ترسل رسالة مفادها أن «العصر الذهبي للبناء العشوائي» قد انتهى، وأن زمن “دوز وخود راحتك” قد ولى دون رجعة.

غضب على الشبكات… ودموع على «استثمار» لم يرخص له أحد

انفجرت مواقع التواصل الاجتماعي غضبا وتعاطفًا مع “المنعش المظلوم”، الذي لم يجد من يواسيه سوى محاميه، بعد أن وصفا عملية الهدم بأنها “متسرعة” وتشوبها “شطط في استعمال السلطة”.

160 مليون درهم طارت في الهواء، و200 منصب شغل كان من المفترض أن ترى النور… لو كان المشروع قانونيًا أصلا!

لكن رواية المظلومية هذه، التي روّجتها بعض المنابر الإعلامية بكرم حاتمي، تغافلت -لسبب ما- عن ذكر حقائق حاسمة.

فالترخيص الأولي قبل خمس سنوات لم يكن لقصر ضيافة ولا لقاعة حفلات، بل لـ منزل بسيط وإسطبل للخيول… قبل أن يتحول، بلمسة سحرية، إلى مركب فندقي مترامي الأطراف على مساحة 15 ألف متر مربع.

وكأننا أمام نسخة عمرانية من “سندريلا”، لكن دون حضور الجنية القانونية.

تعليق الهدم… هل تراجعت الدولة؟ أبدا. فقط الجرافات تحتاج استراحة

حين توقف الهدم فجأة، سارع البعض لتأويل الأمر بأن “الدولة شعرت بالندم”. لكن الحقيقة أبسط من ذلك:

الهدم الكامل يتطلب ترتيبات تقنية واحتياطات تتعلق بالسلامة.

بمعنى آخر: الجرافات ليست روبوتات مارفيل، وتحتاج هي أيضًا لالتقاط الأنفاس.

وأكد مصدر رسمي أن المالك مُنح بضعة أيام لإكمال الهدم بنفسه، وإلا ستعيد السلطات تشغيل الآلات.

وبالفعل، عادت الجرافات صباح الاثنين، “فريش” ونشيطة، لتكمل المهمة تحت إشراف السلطات المحلية.

ترخيص استثنائي… نعم، لكن قبل البناء وليس بعد تنصيب الثريات

حاول المنعش لاحقًا، في 2021 و2024، الحصول على ترخيص استثنائي لتحويل المشروع إلى نشاط سياحي. لكن المركز الجهوي للاستثمار رفض الطلبين.

كما يقول أحد أعضاء اللجنة:

“الترخيص الاستثنائي يقدم قبل أن تبني، لا بعد أن تصبح القاعات جاهزة للحفلات.”

منطق بسيط، لكنه يبدو معقدًا لبعض المستثمرين الذين يعتقدون أن وضع السلطات أمام الأمر الواقع هو أسلوب تدبير حديث.

لماذا خمس سنوات من الصمت؟ الدولة ليست Netflix… وهناك مواسم للتتبع

يستغرب البعض تأخر التدخل، وكأن مرور الزمن يمنح المخالفة “قداسة عمرانية”.

يجيب مصدر رسمي بسخرية لاذعة:

“إذا سرق شخص المال لمدة ثلاث سنوات، لا يعني ذلك أن الشرطة فقدت حق اعتقاله.”

وفي سابقة مماثلة، ظلت “فيلا الأسود” في سلا صامدة سنوات قبل أن تسقط في النهاية.

الدولة لا تتعجل، لكنها لا تنسى.

سقوط «الكرملين»… وسقوط رئيس الجماعة أيضًا

بالتزامن مع القضية، تم عزل رئيس جماعة بوسكورة السابق، المتهم بعدة اختلالات في تدبير التراخيص.

ولم يزد ذلك سوى في توسيع دائرة الشبهات حول تلاعبات عمرانية تمت تحت مظلة الجماعة.

وإن كان بعضهم يحاول تحويل الأمر إلى “مؤامرة سياسية”، فإن التحقيقات الإدارية تتحدث بصوت أعلى.

النواصر: من “واحة الفوضى العمرانية” إلى ورشة إصلاح شاملة

قضية «كرملين» بوسكورة ليست حادثًا معزولًا، بل هي جزء من حملة غير مسبوقة ضد الفوضى العمرانية في إقليم النواصر.

فقد تم خلال الأشهر الأخيرة هدم أكثر من 550 مبنى مخالفًا، من مستودعات وحظائر، وصولا إلى قصور انتفخت خارج كل منطق قانوني.

يقول مصدر مطلع:

“لا امتيازات بعد اليوم… كل واحد غادي يجي دورو.”

الاستثمار المسؤول… ليس “استثمارا يسبق القانون”

هذه القضية تكشف أن الدولة بصدد تكريس نموذج جديد:

  • الاستثمار لا يعطي حصانة
  • الرأسمال لا يلغي القانون
  • والمنطقة الفلاحية ليست “أرض الأحلام” لمن يسعى لبناء إمبراطورية إسمنتية

كما تعيد القضية التذكير بأن حماية الأراضي الفلاحية لم تعد مجرد شعار بروتوكولي، بل أولوية عمرانية حقيقية.

حين تُهدم القصور… وتُبنى دولة القانون

يمثل هدم «كرملين بوسكورة» رسالة واضحة:

القانون لا يُفاوض، ولا يتأثر بحجم المشروع، ولا ينحني أمام النفوذ.

إنها لحظة فاصلة في مسار الحكامة العمرانية بالمغرب، ورسالة مفادها أن “الدولة قد عادت” إلى المجال الترابي، وأن زمن تجاوز القانون قد انتهى، مهما كان حجم الاستثمار أو عدد الأضواء المبهرة في قاعة الحفلات.

لقد سقط “الكرملين” الإسمنتي، لكن صعود دولة القانون هو القصة الحقيقية التي تستحق المتابعة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com