دبلوماسية “الوسيط المتخيَّل”: كيف تحاول الجزائر الهروب من نصّ القرار 2797… ومن ظلّ نفسها؟
بوشعيب البازي
لم يجد النظام الجزائري، بعد الضربة الدبلوماسية الموجعة التي مثّلها القرار الأممي 2797، سوى حيلة أشبه بعرض مسرحي مرتجل: تقديم نفسه وسيطاً نزيهاً في نزاع ظلّ يصنعه ويموله ويتنفسه منذ نصف قرن. وهكذا ظهر وزير الخارجية أحمد عطاف، في مشهد رمزي يصلح درساً في علم النفس السياسي، محاولاً تجميل فشل تاريخي برداء “المصلح”. لكن خلف الستار، ثمة دبلوماسية تتخبط، ونظام يحاول إقناع مواطنيه بأن الشمس تشرق من الغرب.
مشهد أول: “وسيط” يرتدي قناع صانع النزاع
يوم الثلاثاء 18 نونبر، خرج أحمد عطاف أمام الصحافة ليعلن، بكل ثقة مصطنعة، استعداد بلاده للعب دور الوساطة بين المغرب و«البوليساريو». كان المشهد أقرب إلى كوميديا سياسية رديئة: بلدٌ يمول الجبهة منذ خمسين عاماً، يطالب الآن بالحياد، ويعرض خدماته كحمامة سلام.
لا يتعلق الأمر بمرونة دبلوماسية، بل بمحاولة تجميل انتكاسة بحجم الصحراء نفسها. فبعدما صافح مجلس الأمن المخطط المغربي للحكم الذاتي بإحدى عشرة يد مرفوعة، لم تجد الجزائر سوى تكتيك “الهروب إلى الأمام” لإخفاء انكسارها أمام الرأي العام الداخلي.
إنكار دبلوماسي… وألعاب لغوية غير قابلة للتصديق
أحمد عطاف، الذي بدا في مؤتمره الصحفي كمن يحاول قراءة نص لا يعترف به، أمضى وقتاً طويلاً في شرح ما لم يحدث. فبحسب روايته، القرار 2797 “لم يعترف بالسيادة المغربية”، و“لم يتبنّ مخطط الحكم الذاتي”، و“لم يسمّ سوى طرفين”.
المفارقة أن نص القرار واضح كالشمس في عزّ الظهيرة:
- يدعم المفاوضات على أساس مخطط الحكم الذاتي المغربي.
- يعتبر الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الأكثر واقعية.
- ويذكر جميع الأطراف بالاسم، بما فيها الجزائر… بالعدد نفسه الذي ذكر به «البوليساريو».
لكن وزير الخارجية الجزائري، الذي يعيد تفسير النصوص كما يعاد تدوير البيانات الرسمية، اختار سردية موازية، ثم ذهب أبعد: فقد اختفى مقطع “الوساطة” في النسخ الرسمية اللاحقة من وكالة الأنباء الجزائرية. شُطب من التصريحات كما تُشطب الفقرات المحرجة من بيانات الأحزاب قبل الانتخابات.
بلاد الإنكار: صناعة رواية مضادة للوقائع
عندما يؤكد وزير خارجية دولة عضو في مجلس الأمن أن كلمة “السيادة” غير واردة في قرار أممي، بينما تظهر أمامه بالخط العريض في النص نفسه… فذلك ليس رأياً دبلوماسياً، بل تمريناً في الإنكار المرضي.
ويطرح سؤالاً بسيطاً: كيف يمكن لدبلوماسية تتصرف بهذه الخفة أن تقنع العالم بأنها قادرة على “تحييد” نفسها في نزاع هي جزء منه؟ الجزائر هنا ليست أمام مأزق تفسير، بل مأزق وجود: بعد أن أصبحت طرفاً بمقتضى القرار 2797، تحاول ببساطة إنكار أن العالم لاحظ ذلك.
الفيديو المفقود… ثم الفيديو المعدَّل
اللافت أن التصريحات الخطيرة لعطاف لم تظهر مصورة مباشرة، لا في التلفزيون الجزائري ولا على الإنترنت. احتاج النظام لعدة ساعات قبل أن يسمح ببث نسخة “منقحة”، وقد حُذف منها مقطع الوساطة المزعجة، بينما ظهر لاحقاً فيديو معدل على قناة الوزارة في “يوتيوب” يبدأ فيه الوزير الحديث وكأنه يقرأ من قائمة طوارئ.
في دبلوماسية الأنظمة المتوترة، يسقط أولاً ما لا يمكن الدفاع عنه… بسلاسة المقصّ في غرفة التحرير.
وكيل الجزائر يصفع الرواية الرسمية
في المقابل، لم يُسعف الحظ النظام الجزائري حين قررت «البوليساريو» من تلقاء نفسها مهاجمة القرار الأممي في مذكرة رسمية، واصفة العملية بـ“الجمود البيروقراطي”. أي أن الوكيل، الذي ظل النظام يبرر وجوده نصف قرن، اختار الخروج عن النص وإفساد حبكة “الوساطة” الجديدة على المسرح السياسي الجزائري.
هكذا وجد النظام نفسه أمام وضع سخيف: يحاول الظهور كوسيط “عقلاني”، بينما ذراعه الانفصالية تصرخ في الأمم المتحدة وتعلن رفضها الكامل للقرار.
الخوف كوقود سياسي: من مدريد إلى برلين
الأزمات الأخيرة مع إسبانيا وفرنسا، ثم قضية الكاتب بوعلام صنصال مع ألمانيا، كشفت هشاشة النظام الذي يختار التصعيد فقط حين يتأكد أن الآخر لن يرد. في قضية صنصال، رضخ النظام خلال ساعات، في مشهد أظهر أن خطاب “القوة” مجرد صدى لقلق داخلي يتعمق عاماً بعد عام.
أما في قضية الصحراء، فقد فرض عليه العالم حقائق جديدة:
- مخطط الحكم الذاتي أصبح المرجعية الدولية الوحيدة القابلة للحياة.
- الحلفاء التاريخيون للجزائر يغيرون مواقعهم.
- والقرار الأممي الأخير يذكر الجزائر طرفاً صريحاً في النزاع.
معزول في الخارج… ومطوَّق بالغضب في الداخل
الجزائريون أنفسهم بدأوا يتساءلون، بصوت أعلى من أي وقت سابق، عن مليارات الدولارات التي تبخرت “لصالح البوليساريو”، بينما يعيش المواطن قصصاً يومية مع الندرة والبطالة والهجرة الخطرة نحو أوروبا. وما اعتراف الرئيس تبون بأن “ثروة هائلة أُنفقت على الملف” إلا كلمة حق خرجت سهواً من خطاب رسمي.
وساطة على الورق… واستسلام تحت الطاولة
ما قدمه أحمد عطاف ليس مبادرة سلام، ولا تحولاً استراتيجياً، بل هو محاولة لتلطيف صدمة المشاركة القسرية في مفاوضات قائمة على الحكم الذاتي المغربي. إنها مناورة تقليدية قبل الإفلاس السياسي، وهروب بلاغي إلى الأمام حين تصبح الحقيقة ضيقة جداً على الخطاب الرسمي.
في النهاية، قد تنجح الدبلوماسية الجزائرية في حذف كلمة من بيان صحفي، أو تعديل فيديو، أو إعادة ترتيب الجمل في نص أممي… لكنها لن تستطيع إعادة كتابة الوقائع التي فرضها القرار 2797 على الأرض:
المغرب يتقدم سياسياً، والعالم يتبنى مبادرته، والجزائر مضطرة للجلوس إلى الطاولة التي هربت منها نصف قرن.
وهكذا، فإن “الوسيط الجزائري” ليس سوى آخر فصل في رواية سياسية طويلة… اقترب موعد نهايتها.