قراءة في أطروحات كتاب “إمارة المؤمنين” للدكتور عبد الله بوصوف
تُعدّ إمارة المؤمنين في المغرب إحدى أعرق المؤسسات الدينية والسياسية في العالم الإسلامي، لما تجسّده من استمرارية تاريخية وقدرة على التأقلم مع التحولات. فمنذ أن استلهم المغاربة نموذج بيعة الرضوان ، تلك اللحظة المؤسسة التي بايع فيها المسلمون النبيَّ محمدًا (ص)، تشكّلت قاعدة شرعية ظلت ممتدة لأكثر من أربعة عشر قرنًا، وحافظت على مكانتها رغم تغيّر الدول والأسر الحاكمة.
هذه المكانة الخاصة لإمارة المؤمنين لا يمكن الإحاطة بعمقها دون العودة إلى أحد أهم المراجع الأكاديمية الحديثة في الموضوع، وهو كتاب “إمارة المؤمنين: الدلالات الدينية والدلالات السياسية” للأكاديمي والمؤرخ المغربي الدكتور عبد الله بوصوف، الذي قدّم قراءة منهجية توضح كيف تطورت هذه المؤسسة لتصبح أحد أهم مرتكزات الدولة المغربية الحديثة.
إرث مؤسِّس يتجاوز تبدّل الدول والأزمنة
على مدى قرون، ظلّت الشرعية الروحية والسياسية لإمارة المؤمنين ثابتة في بنية الدولة. ويشير الدكتور بوصوف في كتابه إلى أن هذا الثبات لم يكن نتيجة جمود، بل ثمرة مرونة مؤسساتية مكّنت المغرب من الجمع بين الشرعية الدينية والوظائف السياسية في معادلة متناغمة، سواء خلال العصور الوسيطة أو في فترات التحديث الكبرى.
ويرى الكاتب أن هذه الشرعية لم تكتفِ بإضفاء الإجماع على السلطة، بل أسهمت في توحيد الهوية وقطع الطريق أمام الانقسامات الداخلية التي عرفتها دول مجاورة بسبب غياب مرجعية موحدة.
الدولة المركزية ودور إمارة المؤمنين في الإصلاح
عبر تاريخ المغرب، كانت جميع الإصلاحات ، من تقنين القضاء وتحديث الجيش إلى ضبط المجال الديني ، مرتبطة بهذه الدولة المركزية ذات الطابع الديني.
ويؤكد كتاب الدكتور بوصوف أن إمارة المؤمنين لم تكن نظامًا تقليديًا محافظًا فحسب، بل فاعل أساسي في بناء الدولة الحديثة. فإصلاحات الحقل الديني، وإعادة تنظيم المجلس العلمي الأعلى، وإطلاق برامج تكوين الأئمة والمرشدين، كلها الإصلاحات التي استندت إلى هذه المؤسسة لضمان المصداقية والقبول المجتمعي.
كما أن احتكام السياسة، تاريخيًا، إلى الفقه الإسلامي والعادات المحلية يعكس الانسجام بين الديني والاجتماعي، وهو أحد العناصر التي فصلها بوصوف في كتابه باعتبارها “خصوصية مغربية” نادرة في العالم الإسلامي.
قراءة بوصوف: الأصالة والمعاصرة ليست معادلة مستحيلة
من أهم مساهمات كتاب “إمارة المؤمنين” تأكيده أن المغرب لم يواجه الحداثة بمنطق الصدام، بل بمنهج التكييف والتدرج.
فالدولة المغربية ، كما يوضح بوصوف ، لم تتخلَّ عن مرجعيتها الدينية، لكنها في الوقت نفسه تبنت القوانين الوضعية كآلية لتنظيم المجتمع المعاصر.
هذه الازدواجية الخلّاقة بين الأصالة والمعاصرة، بين المرجعية الإسلامية والقانون الحديث، يراها بوصوف أحد أسرار استمرارية الدولة المغربية. وهي ليست تناقضًا، بل نموذجًا فريدًا أثبت نجاعته مقارنة بعدد من التجارب الإقليمية التي انهارت بسبب غياب توازن واضح بين الديني والسياسي.
إمارة المؤمنين: ضمانة الأمن الروحي ومواجهة التطرف
يولي الدكتور بوصوف أهمية خاصة لدور إمارة المؤمنين في تأطير المجال الديني وضمان الأمن الروحي للمغاربة، معتبرًا أن هذا الدور لم يعد داخليًا فقط.
فالمغرب، عبر مؤسسة إمارة المؤمنين، أصبح فاعلاً دوليًا في تكوين الأئمة ومكافحة التطرف، مقدّمًا نموذجًا بديلاً عن الخطابات المنفلتة أو الراديكالية التي غذّت النزاعات في مناطق عدة.
ويرى بوصوف أن قوة هذا النموذج تكمن في اعتماده على البيعة وعلى المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف الجنيدي، وهي ركائز تاريخية حافظت على الاعتدال والاستقرار الفكري لدى المغاربة.
نحو فهم جديد لدينامية الدولة والدين
إن تحليل الدكتور عبد الله بوصوف يقدّم مفتاحًا ضروريًا لفهم طبيعة الدولة المغربية:
- دولة دينية في شرعيتها،
- حديثة في مؤسساتها،
- عقلانية في إصلاحاتها،
- ومتوازنة في إدارتها للمجال الديني.
هذا النموذج الذي يزاوج بين الاستمرارية والتجديد، بين عمق التاريخ وضغط الحاضر، هو ما جعل إمارة المؤمنين ركيزة هوية وضمانة استقرار وقاطرة تحديث في الآن ذاته.
إمارة المؤمنين ليست مجرد بنية تاريخية ورثها المغرب عن الماضي، بل مشروع وطني مستمر، استطاع ، كما يُبرز كتاب الدكتور عبد الله بوصوف ، أن يجسد أحد أنجح نماذج التعايش بين الدين والدولة في العالم الإسلامي.
وبينما تتخبط أنظمة كثيرة في معضلة التوفيق بين المرجعية الدينية ومتطلبات الدولة الحديثة، يظل النموذج المغربي يقدم صيغة متوازنة، قائمة على شرعية روحية راسخة وإصلاحات سياسية عقلانية، ما يجعل إمارة المؤمنين اليوم حجر الزاوية في بناء مستقبل المغرب واستقراره