الجزائر بين زمنين: حين تفضح “لوبوان” أزمة دولة سجينة ستينياتها

حنان الفاتحي

في تقرير مطوّل حمل نبرة نقد حادّة، كشفت مجلة “لوبوان” الفرنسية عن صورة قاتمة للجزائر الرسمية، ووصفتها بأنها دولة ما تزال “عالقة في الستينيات”، تحاول مجاراة القرن الواحد والعشرين بخطاب سياسي مجمّد، وقراءات متكلّسة للعالم، ورؤية داخلية غير قادرة على ملاحقة التحولات الكبرى التي تعيد تشكيل الاقتصادات والمجتمعات والدبلوماسيات عبر العالم.

ووفق المجلة، فإن المفارقة المؤلمة تكمن في أن العالم يتقدّم بخطى تكنولوجية فائقة، فيما تظل الجزائر الرسمية سجينة سرديات التحرر من الاستعمار، وأدبيات الحرب الباردة، وخطاب “المؤامرة الخارجية”، وكأن الزمن توقف بها في لحظة أيديولوجية واحدة لا تتحرك.

خطاب قديم في زمن جديد

يرى تقرير لوبوان أن القيادة السياسية في الجزائر ما تزال تتبنى خطاباً موروثاً من زمن الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي. فبينما يركّز العالم اليوم على الذكاء الاصطناعي والابتكار والتكنولوجيات النظيفة، ما يزال النظام الجزائري يقدّم نفسه من خلال صورة “الدولة المحاصرة” التي تواجه قوى خارجية تسعى إلى إضعافها.

وبحسب المجلة، فإن هذا الخطاب لم يعد يُقنع حتى الداخل، لأنه يتجاهل الأسئلة التي تشغل المواطن البسيط:

  • كيف تُبنى اقتصاديات قوية خارج الريع؟
  • كيف تُخلق فرص عمل حقيقية في بيئة دولية متغيرة؟
  • وكيف تخرج البلاد من دائرة التوجس والانغلاق إلى رحابة الفعل الإقليمي والمؤسساتي؟

متلازمة البطولات الوهمية

تذهب المجلة إلى أن النظام يعاني من ما تسميه “متلازمة البطولات الوهمية”، إذ يواصل بناء شرعيته على انتصارات تاريخية مرتبطة بفترة الاستقلال، من دون تقديم رؤية مستقبلية متماسكة. هذا التمسك بالماضي بحسب التقرير ، أصبح عبئاً سياسياً، لأنه يغذّي قناعة بأن النظام يعيش خارج الزمن، ولا يرى في الحاضر سوى تهديدات يجب التصدي لها بالأدوات نفسها التي استخدمت قبل نصف قرن.

هذه الذهنية، تضيف المجلة، تحوّل النقاش العام إلى سجال حول “أمجاد الأمس” بدل التفكير في كيفية انتشال الاقتصاد من حالة التبعية المطلقة للمحروقات، أو مواجهة نسب البطالة المرتفعة، أو الاستجابة لاحتياجات الشباب الذين غادروا، فعلياً، سردية الدولة.

اقتصاد جامد في عالم متحوّل

يشدّد تقرير لوبوان على أن أخطر مظاهر الجمود في الجزائر يكمن في غياب التحول الاقتصادي الحقيقي. فبينما تسابق دول إفريقية صاعدة نحو اقتصاد التكنولوجيا والرقمنة، لا تزال الجزائر تعتمد، بشكل شبه مطلق، على عائدات الغاز والنفط، في نموذج تنموي هشّ، تعرّيه كلّ أزمة أسعار عالمية.

وتحذّر المجلة من أن استمرار هذا الوضع يحرم البلاد من فرص هائلة في مجالات الابتكار الصناعي، والطاقة المتجددة، والخدمات الذكية، وهي القطاعات التي أصبحت معيار قوة الدول في القرن الحادي والعشرين.

سياسة داخلية عنوانها الإغلاق

وفق التقرير، لا تقتصر الأزمة على الجانب الاقتصادي، بل تمسّ أيضاً بنية النظام السياسي الذي يفضّل التحكم بدل المبادرة، والسيطرة بدل الإصلاح.

فالخطاب الرسمي يتعامل مع العالم بعقلية الشك، ومع الداخل بمنطق الأمن أولاً، مما جعل الهوة تتسع بين الدولة والمجتمع، خصوصاً في ظل القمع المتكرر للاحتجاجات وغياب مساحات التعبير الحر.

وترى لوبوان أن هذا النهج يغذّي عزلة الجزائر إقليمياً ودولياً، ويجعلها أقل قدرة على قراءة التحولات الاستراتيجية المحيطة بها، سواء في شمال إفريقيا أو في منطقة الساحل التي تشهد صراع نفوذ محموماً.

حين يصبح الزمن عبئاً سياسياً

الصورة التي ترسمها “لوبوان” ليست مجرّد نقد خارجي، بل تنبيه إلى مأزق الزمن السياسي الجزائري: دولة تتغيّر حدودها الاقتصادية والاجتماعية أسرع مما تتغيّر عقيدتها السياسية.

وبينما تسعى دول المنطقة إلى إعادة تشكيل علاقاتها الدولية، وتنويع اقتصاداتها، والاندماج في الثورة التكنولوجية، يبدو أن الجزائر مازالت تراوح مكانها، تحرس ذاكرة من دون أن تبني مستقبلاً.

دولة تبحث عن مخرج من ظلال الماضي. التقرير الفرنسي، رغم نبرته الحادة، يفتح سؤالاً أعمق، هل تستطيع الجزائر الانتقال من مرحلة “الشرعية الرمزية” إلى مرحلة “الشرعية التنموية”؟ وهل يمكن لنظام يقوم على لغة الماضي أن يقود مجتمعاً شاباً يعيش بالكامل داخل الزمن الرقمي؟

الإجابة ، كما توحي قراءات عديدة ، لا تتطلب انقلاباً سياسياً بقدر ما تحتاج إلى انقلاب في ذهنية الدولة، وتحول في كيفية فهم العالم، وإيمان بأن المستقبل لا يُصنع بخطابات الشك والخوف، بل بجرأة الإصلاح.

هذه هي المفارقة التي سجّلتها لوبوان ، دولة غنية بالموارد، فقيرة في الرؤية. دولة لها تاريخ طويل، لكنها ما تزال تخشى الزمن الآتي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com