ساركوزي وصنصال… حين يصبح السجن مادةً تُصنع منها النجومية الرقمية

فاطمة الزهراء مجدي

لم تكن الأيام الأخيرة عادية على منصّات التواصل الاجتماعي في فرنسا والمغرب والجزائر. فقد وجد المتابعون أنفسهم أمام مقارنة غير متوقعة بين شخصيتين مختلفتين تماماً:

  • نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق الذي خرج من السجن بعد عشرين يوماً محطَّماً كما ظهر في صوره الأولى.
  • الروائي بوعلام صنصال، الذي أنهى سنة كاملة خلف القضبان في الجزائر، وخرج كما لو أنّ شيئاً لم يحدث، يبتسم، يلقي النكات، ويوزّع الطمأنينة على مستضِيفيه في كبرى القنوات الفرنسية.

في فضاء السوشيال ميديا، تفاعل الملايين مع قصّتَي “السجينين”، لكن كلٌّ بطريقته. وبينما حوّلت الصحافة الفرنسية تجربة ساركوزي إلى “عطلة قصيرة” لرئيس سابق، سلّطت الضوء على صنصال بوصفه رمزاً لمعركة حرية التعبير، بدا المشهد أكثر تعقيداً من هذا التبسيط الذي صمّمته كاميرات الإعلام.

فرنسا: غضب على “سجين يكتب يومياته” وآخر يعود كالنجم

لم تمض ساعات على إعلان دار “فيار” استعدادها لنشر كتاب ساركوزي الجديد “يوميات سجين”، حتى اشتعلت وسائل التواصل الفرنسية. كثيرون رأوا في الكتاب دليلاً جديداً على ميل فرنسي للتذمّر وتحوير المعاناة إلى سرد أبيض ناعم قابل للتسويق الأدبي.

المفارقة أنّ مقارنة ساركوزي بصنصال تحوّلت سريعاً إلى مادة للسخرية الشعبية:

  • “الكاتب العجوز المصاب بالسرطان بدا أقوى من الرئيس السابق”.
  • “ساركوزي خرج محطم القلب، وصنصال خرج كأنه عاد من منتجع صحراوي”.
  • “هل السجون الجزائرية أفضل ممّا تخيله الإعلام الفرنسي؟”

لقد لعب الإعلام الفرنسي دوراً محورياً في رسم هذه الصورة. فقد صُوّر صنصال ككاتب عاشق للحرية، يعاني في “سجون متخلّفة”، ثم ظهر فجأة أمام الكاميرات بكامل أناقته، سعيداً، متحمساً، مُقبلاً على الحياة.

هذا الانقلاب المفاجئ في صورته أثار تساؤلات واسعة حول مدى صدقية السردية الفرنسية عن “الكاتب المضطهد”.

الجزائر: تضامن أخلاقي مُجبر، وارتباك تجاه عودة غير متوقعة

على الضفة الجنوبية للمتوسط، لم يكن الاستقبال بالحرارة نفسها. كثير من الجزائريين رأوا في الإفراج عن صنصال “هدية مجانية لرجل لطالما هاجم البلد وسياسته وتاريخه”.

تضارب المشاعر كان واضحاً:

  • تضامن أخلاقي فرضته قيم حقوقية.
  • غضب داخلي من رجل يعتبره كثيرون “أيقونة كراهية للذاكرة الجزائرية”.
  • توجس من حضوره المكثّف في الإعلام الفرنسي بخطاب يغازل اليمين المتطرف.

لكن أكثر ما أثار الجدل كان تصريح صنصال بأنه سيعود قريباً إلى الجزائر، وهو ما فُهم في فرنسا كإشارة إلى تعلّقه بوطنه، بينما فُسّر في الجزائر كتحدٍّ واستفزاز، أو ربما محاولة جديدة لاقتحام الفضاء العام من بوابة الجدل.

ومهما كانت دوافعه، فقد ترك الروائي الكرة في ملعب الرأي العام، الذي انقسم بين من رأى فيه “مغامراً يكتب حياته بلغة رواية”، ومن اعتبره “مستفزاً يتقن لعبته الإعلامية”.

“زيرو تفاهة”: حين تنتقل المعركة من نجوم السياسة إلى نجوم السوشيال ميديا

وفي المغرب، تجتاح حملة “زيرو تفاهة” مواقع التواصل، لتعيد طرح سؤال قديم: هل أصبح فضاء السوشيال ميديا منتجاً للتفاهة، أم أن التفاهة نفسها انعكاس لحال مجتمعات مضطربة تبحث عن خلاص سريع؟

قضية مولينكس وآدم بن شقرون فجّرت هذا النقاش. فبدلاً من محتوى ترفيهي، وجد الجمهور نفسه أمام اتهامات بالاتجار بالبشر واستغلال القاصرين.

وتحوّلت الحادثة إلى لحظة انفجار اجتماعي ضد “طبقة المؤثرين” التي نمت في البلاد بلا إطار قانوني، وبلا معايير، وبلا سقف للمسؤولية.

المفارقة أنّ هذه الحملة تمددت إلى بلدان مغاربية أخرى، وكأن المنطقة بأسرها تعيش أزمة ثقة في الفضاء الاجتماعي، مع صعود موجة من “العدالة الشعبية الرقمية” التي تُدين وتُبرّئ بسرعة أكبر مما تستطيع المؤسسات القضائية أن تفعل.

في الجزائر، لاحقت الاعتقالات مؤثرين كثر، وكان آخرهم “بوجمعة الشلفي”.

وفي مصر، يتكرر السيناريو مع “سوزي الأردنية” وآخرين.

وفي كل الحالات، تبدو الظاهرة جزءاً من اضطراب أوسع:

  • صراع بين الحرية والانضباط،
  • بين الشعبية والنفوذ،
  • بين الواقع الرقمي والقيم التقليدية.

هشاشة المشهد العام: حين ينتصر السرد على الحقائق

سواء تعلق الأمر بساركوزي، أو صنصال، أو نجوم المنصّات الرقمية، فإن ما يجمع الحالات الثلاث هو طغيان الصورة على الحقيقة.

لقد أصبحت السوشيال ميديا قوة قادرة على:

  • إعادة صناعة الرموز،
  • إعادة تشكيل صورة النخبة،
  • خلق “ضحايا” و“أبطال” بمعزل عن الوقائع القضائية أو السياسية.

في فرنسا، أُعيد إطلاق مسيرة كاتب مثير للجدل بفضل “سنة سجن”.

في الجزائر، وجد كثيرون أنفسهم مضطرين للدفاع عن شخص يرفضون أفكاره. وفي المغرب، دُفعت فئات شعبية إلى حملات تطهير رقمي ضد “طبقة جديدة” تسبح بين الشهرة والجريمة.

زمنٌ بلا بوصلة… حين تتحول العدالة والصورة إلى لعبة واحدة ، نعيش اليوم عصر عالم افتراضي يملك قدرة هائلة على قلب الموازين:

سجين يخرج بطلاً، ورئيس سابق يصبح مادة للسخرية، ومؤثرون يتحولون إلى رموز للجدل والفضائح.

وقد يكون الدرس الأعمق من كل ذلك هو أن المجال العام، سواء في أوروبا أو المغرب العربي، أصبح مرآة لقلق اجتماعي واسع، قلق من المؤسسات، من النخب، من العدالة، ومن المستقبل نفسه.

وفي ظل غياب بوصلة فكرية واضحة، يبدو أن النجم الحقيقي لهذه المرحلة ليس ساركوزي، ولا صنصال، ولا “مولينكس”…

بل السردية، تلك القصة التي تصنعها السوشيال ميديا، وتفرضها على الجميع، حتى ولو كانت أبعد ما تكون عن الحقيقة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com