فضيحة “لوكيشن”: كيف أسقط تحديث تقني بسيط أكبر شبكة تضليل موجّهة ضد المغرب؟

يوسف لفرج

من كان يعتقد أن تحديثاً تقنياً صغيراً على منصة “إكس” سيصبح أشبه بـ”الكشف السريري” لأضخم شبكات التضليل التي استهدفت المغرب في السنوات الأخيرة؟ تحديث لا يساوي أكثر من نقرة في كود المنصة، لكنه فجّر قنبلة معلوماتية كشفت أن جزءاً واسعاً مما كان يُقدَّم على أنه “نبض الشارع المغربي” لم يكن في الحقيقة سوى نبض غرف عمليات رقمية على بعد مئات الكيلومترات… في وهران وعنابة وتيزي وزو، وأحياناً بالقرب من مخيمات تندوف، مع فروع فرنسية وبلقانية وكندية لضمان خدمة 24/24.

ولأن الفضيحة كانت مدوّية، فقد وصف خبراء الأمن الرقمي اللحظة بأنها “نقطة التحوّل” التي أنهت ، ولو مؤقتاً ، سردية لطالما رُوّج لها حول “غضب مغربي رقمي داخلي”. وإذا بحقائق الجغرافيا تقول: الغضب مستورد، والفتيل مصنوع خارجياً، وشعارات “نحن أولاد كازا والدار ديال جدّنا” تُكتب من قلب عمارة حكومية في وهران.

من الدار البيضاء… إلى وهران: الحساب الذي لم يتوقع أحد أن يتعثر بالإحداثيات

منذ تفعيل خاصية إظهار الموقع الجغرافي للحسابات، بدأت تسقط الأقنعة واحداً تلو الآخر. حسابات أمضت سنوات تحكي قصص الطاكسي الأبيض في الدار البيضاء وحساء العدس في طنجة، تبين أنها تنشر تغريداتها من عمارات حكومية في الشرق الجزائري أو من غابات القبايل. آخرون كانوا يتحدّثون عن “برد فاس” وهم على بعد ألف كيلومتر في ضواحي تندوف.

Screenshot

أما المفاجأة الأكثر إثارة فكانت ظهور خيوط تُوصل الشبكة إلى دول أوروبا الشرقية وقطر وكندا، بشكل يؤكد وجود هيكل منظم وعابر للحدود، وليس مجرد مجموعة من المراهقين الحالمين بإسقاط دولة عبر “هاشتاغ”.

لحظة الحقيقة: المغرب يتقدم… فترتفع حرارة التضليل

المراقبون لم يتفاجؤوا. فكل موجة تحريض كانت تظهر دائماً على إيقاع نجاحات مغربية واضحة:

  • ترسيخ مجلس الأمن لخيار الحكم الذاتي كحل واقعي لقضية الصحراء،
  • طفرة اقتصادية غير مسبوقة،
  • توسيع شراكات الرباط مع قوى مؤثرة في أوروبا وأميركا وإفريقيا،
  • مقابل تآكل نفوذ الدبلوماسية الجزائرية وعزلتها المتزايدة في ملفات الساحل وفرنسا وإسبانيا.

ومع هذا الانحدار، قررت بعض الجهات في الجزائر، التي ما زالت تعيش في “عصر الأنترنيت كومودور 64” أن الحل هو إطلاق جيوش افتراضية مكتملة العتاد: لهجة مغربية مُتقنة، قصص اجتماعية مُختلقة، هاشتاغات مصنوعة لإثارة الانفعال، وكمية من البكائيات الرقمية تكفي لإقناع أي متابع جديد بأن المغرب على حافة الانهيار… بينما البلاد تبني أكبر ميناء في إفريقيا وتفتتح مصانع السيارات والطائرات.

تمويه لغوي برخصة مزوّرة

التحقيقات الرقمية كشفت أن الشبكة تعتمد نظاماً متقدماً للانتحال، حيث تم تدريب المشغّلين على استعمال الدارجة المغربية ومفردات الحياة اليومية بشكل متقن.

“خويا دّيزولي ما بقا ما يتكال”، “البطاطا ولات بالصرف”، “الزنقة سخونة”…

عبارات نسجها أشخاص لم تطأ أقدامهم المغرب يوماً، لكنها كانت كافية لخداع آلاف المتابعين قبل أن تتكفّل خاصية الـ location بإحراج الجميع.

Screenshot

الفشل بالهروب: حذف جماعي، هروب جماعي… وارتباك جماعي

منذ انكشاف المواقع الحقيقية، عمّ الهلع داخل الشبكة.

  • حسابات بدأت فجأة تحذف أرشيفها.
  • أخرى غيرت أسماء المستخدمين وصور البروفايل إلى قطط وورود.
  • حسابات اختفت كلياً كما تختفي ملفات الفساد عند كل تغيير حكومي في الجزائر.

وهو ما اعتبره الخبراء دليلاً قاطعاً على أننا لم نكن أمام “نشطاء افتراضيين”، بل أمام منظومة منظمة انهارت بمجرد سقوط إحدى قطع “دومينو” التقنية.

حرب الجيل الرابع: حين يتحول “اللايك” إلى رصاصة معنوية

يرى مختصون في أمن المعلومات أن ما وقع ليس إلا نموذجاً كلاسيكياً لحروب الجيل الرابع، حيث يُستهدف المواطن عبر تشويه المزاج العام وصناعة انطباعات غضب وهمية.

كانت الغاية خلق صورة لبلد يعيش على صفيح ساخن، بينما الواقع مختلف تماماً:

النقاشات الاجتماعية طبيعية، والمؤسسات تتفاعل، والمؤشرات الاقتصادية في صعود، والاستقرار العام لا يعكس حجم الضجيج الأصفر المصنوع رقمياً.

بين شعبين شقيقين… و”غرف عمليات” لا تريد الخير لأحد

المؤسف أن هذه الحملات تركت أثراً سلبياً على العلاقات بين الشعبين المغربي والجزائري، في وقت تتوالى فيه دعوات العاهل المغربي الملك محمد السادس لفتح صفحة جديدة قوامها الحوار والثقة وحسن الجوار.

لكن ، وكما تُظهر هذه الواقعة، هناك جهات في الجزائر ما تزال تدفع في الاتجاه المعاكس، وتشتغل بمنطق بائس:

“إن لم نستطع اللحاق بالمغرب… فلنحاول إرباكه”.

المغرب انتصر… بتقنية لم يخترعها

قد تكون هذه الحادثة مجرد بداية، لكن المؤكد أنها شكّلت منعطفاً حاسماً في إعادة تقييم المشهد الرقمي، وفهماً أدق لطبيعة التهديدات العابرة للحدود.

وإذا كان تحديث بسيط في تطبيق هو ما أسقط شبكة بهذا الحجم، فلا أحد يعرف ما قد يسقطه الذكاء الاصطناعي غداً.

قد تكون هذه أكبر إهانة لشبكة تضليل في التاريخ:

هُزمت ليس بعمليات استخبارية معقدة، بل بزرّ “إظهار الموقع”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com