أموال جبهة التحرير السويسرية تشعل معركة قضائية بين ابنة أحمد بن بلة والصحافي سعد بوعقبة
حنان الفاتحي
في لحظة تعكس حرج الدولة الجزائرية مع ذاكرتها الثورية، أعاد الاستدعاء القضائي للصحافي المعروف سعد بوعقبة فتح ملف ظل لسنوات طيّ الكتمان: أموال جبهة التحرير الوطني المودعة في البنوك السويسرية خلال حرب الاستقلال. وبينما تنتظر الجزائر قرار المحكمة، فإن القضية تجاوزت حدود نزاع شخصي لتتحول إلى مرآة لصراع مستمر حول التاريخ، والشرعية، ورموز الثورة.
استدعاء غير عابر
استدعى القضاء الجزائري بوعقبة عقب دعوى رفعتها ضده مهدية بن بلة، ابنة أول رئيس جزائري أحمد بن بلة. الدعوى جاءت بعد تصريحات أدلى بها بوعقبة في برنامج تلفزيوني محلي، حيث كشف—استناداً إلى شهادات ووثائق تاريخية كما يقول—أن والدها استفاد من جزء من الأموال التي جمعتها الجبهة خلال حرب التحرير والمودعة في بنك سويسري تحت وصاية القيادي الراحل محمد خيضر.
وبحسب ما عرضه بوعقبة، فإن الأموال التي قُدِّرت بنحو 40 مليون فرنك سويسري قديم كانت تُعتبر رصيد الثورة لبناء الدولة بعد الاستقلال، قبل أن تتحول إلى محور صراع بين قادة الجبهة بعد 1962.
ورغم أن الملف قديم ومعروف في الأدبيات التاريخية، فإن إثارة الموضوع على الهواء مباشرة، وربطه بأسماء رمزية مثل بن بلة، بوضياف، آيت أحمد، كريم بلقاسم وخيضر، منح القضية طابعاً سياسياً وأخلاقياً حساساً.
غضب عائلي… وارتباك سياسي
مهدية بن بلة اعتبرت تصريحات بوعقبة تشهيراً بوالدها ومحاولة لإعادة كتابة تاريخ الثورة بطريقة مسيئة، مؤكدة أن “المساس بسمعة القادة الذين ضحوا من أجل التحرير خط أحمر لا يمكن السكوت عنه”.
في المقابل، أكد فريق دفاع بوعقبة أن ما طرحه الصحافي “مبنيٌّ على وثائق محفوظة لدى مؤرخين جزائريين وفرنسيين”، وأن الهدف ليس تشويه صورة أي شخص، بل “إعادة فتح ملفات معلقة لفهم أخطاء الماضي”.
وبين الروايتين، بدا واضحاً أن القضية هزّت الأوساط السياسية والإعلامية، إذ يُنظر إلى أحمد بن بلة—رغم الجدل حول فترة حكمه—كأحد آخر الرموز الجامعة التي لا يزال جزء من السلطة يعتبر المساس بها نوعاً من العبث بالذاكرة الوطنية.
ذاكرة الثورة… ساحة معركة سياسية
إطلاق سراح بوعقبة مؤقتاً بعد التحقيق الأولي لم يوقف الجدل. بل اعتبره بعض المتابعين خطوة لتجنب “تحويله إلى بوعلام صنصال جديد”، في إشارة إلى الروائي الجزائري الذي أُقصي من المشهد الثقافي بسبب مواقفه الحادة تجاه النظام السياسي.
القضية جاءت في سياق تحاول فيه السلطة ضبط مسار النقاش التاريخي، وسط اتهامات متكررة لإعلاميين ومؤرخين بـ“التلاعب بالذاكرة الوطنية” أو “تسييس التاريخ” بما يخدم صراعات اليوم.
ويقول أحد المعلقين الجزائريين: “التاريخ أصبح مجالاً للمحاكم أكثر منه مجالاً للبحث الأكاديمي. كل رواية قد تتحول إلى قضية.”
أموال الثورة… اللغز المفتوح منذ 60 عاماً
القضية تُعيد إلى الواجهة ملفاً ظل لغزاً غامضاً منذ 1965: أين ذهبت أموال الثورة؟
المؤكد تاريخياً أن الأموال التي جمعها قادة جبهة التحرير من التبرعات العربية والإسلامية كانت مودعة باسم محمد خيضر في بنك سويسري، وأن استرجاعها تعطل بعد الانقلاب الذي قاده هواري بومدين على بن بلة.
مقتل خيضر في مدريد عام 1967 زاد الغموض، إذ بقيت الحسابات مجمّدة بسبب النزاع على شرعية من يمثل الدولة الجزائرية أمام البنوك السويسرية.
ويرى باحثون أن الدولة فقدت فعلاً عشرات الملايين من الدولارات بسبب “الصراعات بين رفاق السلاح”، وهو ما يجعل أي محاولة لإعادة فتح الملف اليوم محفوفة بإحراج كبير للسلطة والرموز التاريخية.
بين قداسة الرموز وحق المجتمع في الحقيقة
منذ وفاة أحمد بن بلة عام 2012، بقيت صورته كقائد ثوري محفوظة في الذاكرة الرسمية. لكن إعادة فتح ملف الأموال، بالنسبة لابنته، “محاولة لتشويه إرث رجل حكم في زمن بالغ الصعوبة”.
أما بوعقبة فيصرّ على أن “الحقيقة لا تُهين أحداً”، وأن كشف هذا الملف “ليس طعناً في وطنية القادة، بل قراءة ضرورية لفهم مسار الدولة الجزائرية بعد الاستقلال”.
على مواقع التواصل الاجتماعي، انقسم الجزائريون بين من يرى أن الصحافة تلعب دورها في كشف ملفات الماضي، وآخرين يعتبرون أن “إعادة نبش الصراعات بين القادة التاريخيين” يهدد وحدة الذاكرة الوطنية.
وكتب أحدهم: “لا يمكن بناء المستقبل دون مصارحة حقيقية مع الماضي، حتى لو كانت موجعة.”
قضية مفتوحة على احتمالات سياسية
بين دعوى التشهير وحق الصحافة في كشف الحقائق، تبدو القضية أكبر من محكمة وأبعد من خلاف عائلي. إنها معركة على رواية التاريخ في بلد لا تزال شرعية كثير من مؤسساته تستمد قوتها من ذاكرة الثورة.
سواء تمت تبرئة بوعقبة أو إدانته، فإن ما حدث يفتح الباب أمام سؤال أعمق:
هل وصلت الجزائر إلى لحظة إعادة كتابة تاريخها بعيون جديدة، أم أن الذاكرة الثورية ستظل منطقة محرمة؟
الجزائريون، على ما يبدو، بانتظار جواب المحكمة… ولكن أيضاً بانتظار جرأة الدولة في مواجهة ملفات الماضي، بلا خوف ولا انتقائية.