الجزائر ومحاولة إحياء ملف الصحراء… حين يتحول الهروب إلى الأمام إلى سياسة رسمية

بوشعيب البازي

Screenshot

لم يكن المؤتمر الإفريقي حول تجريم الاستعمار، المنعقد بالجزائر في نهاية نونبر وبداية دجنبر، سوى مناسبة جديدة حاول فيها النظام الجزائري إعادة الروح لملف يعتبره المجتمع الدولي شبه محسوم منذ قرار مجلس الأمن رقم 2797. ومع أنّ الحدث صُمِّم في الأصل لتثبيت ذاكرة القارة بشأن جرائم الاستعمار وتعزيز المسار القانوني لتعويضات تاريخية، فقد سعى الوفد الجزائري إلى تحويله إلى منصة موازية لإحياء سردية «آخر مستعمرة في إفريقيا»، في تناقض صارخ مع التطورات الدبلوماسية التي أعادت ضبط النقاش على قاعدة الشرعية الدولية.

صدمة 2797… وانكشاف العزلة

يمثل القرار 2797 نقطة تحول مفصلية في مسار النزاع، إذ كرس أولوية المقترح المغربي للحكم الذاتي تحت السيادة الكاملة للمملكة، وجعل من هذا التصور الإطار الوحيد القابل للاعتماد في أي مسار سياسي لاحق. هذه النتيجة التي لم يستوعبها النظام الجزائري بعد، تكشف حجم الشرخ بين الخطاب الداخلي الذي يروّج للوهم، وواقع دبلوماسي يزداد انكماشاً في كل من الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي.

منذ صدور القرار، فقدت الجزائر كل قدرة على المناورة داخل هيئات الاتحاد الإفريقي، بعدما تأكدت الترويكا الإفريقية — بموجب قرار نواكشوط 693 لسنة 2018 — من أن الملف يندرج حصرياً ضمن اختصاص الأمم المتحدة. لذلك تبدو محاولات الجزائر اليوم أشبه بردّ فعل متأخر، يحاول إحياء هامش دبلوماسي لم يعد قائماً.

“تجريم الاستعمار”… مؤتمر جدي في يد نظام يستغله لأهداف صغيرة

كان المؤتمر الإفريقي الدولي المنعقد بالجزائر يحمل غاية واضحة: تحويل الذاكرة الاستعمارية القارية إلى إطار قانوني يتيح الاعتراف بالجرائم وتعويض الشعوب المتضررة، في انسجام مع شعار الاتحاد الإفريقي لهذا العام: «العدالة للأفارقة والمنحدرين من أصل إفريقي عبر التعويضات».

غير أن الجزائر، وبدلاً من احترام أجندة المؤتمر، اختارت إقحام قضية الصحراء عبر خطاب وزير خارجيتها أحمد عطاف، الذي بدا متلهّفاً لدمج النزاع المصطنع ضمن ملف الذاكرة الاستعمارية. خطاب عطاف، المحشو بالاتهامات، لم يقدم أي إضافة سوى تكريس الانطباع بأن الجزائر لم تعد تمتلك سوى لغة التصعيد بعد خسارة كل أوراقها القانونية.

تناقضات صارخة… فلسطين مثالاً

لم يكتفِ عطاف بمحاولة تسييس المؤتمر، بل لجأ إلى إدخال القضية الفلسطينية في سياق حدث لا علاقة له بها. المفارقة تكمن في أن الجزائر نفسها صوّتت قبل أسابيع لصالح مشروع قرار أمريكي بشأن غزة، وهو تصويت أثار استغراب الكثيرين، وكشف أن الخطاب الجزائري حول فلسطين لا يتجاوز حدود الشعارات.

بهذا السلوك، بدا أن الدبلوماسية الجزائرية لم تعد تبحث عن الانسجام أو المصداقية، بل عن أي موضوع يمكن أن يستعمل كستار لتجنب مواجهة الحقيقة: ملف الصحراء لم يعد موضوعاً إفريقيّاً، ولا أممياً إلا من باب دعم الحكم الذاتي.

الاتحاد الإفريقي يضبط الإطار… والجزائر تحاول الخروج منه

منذ قرار نواكشوط 693، أصبح دور الاتحاد الإفريقي محصوراً في دعم مسار الأمم المتحدة دون تجاوزه أو إعادة فتح ملف النزاع داخل المنظمة القارية. وهذا القرار، الذي شاركت الجزائر نفسها في صياغته حين كانت عضواً في مجلس السلم والأمن، يشكل اليوم الحاجز القانوني الأكبر أمام محاولاتها.

مصادر دبلوماسية أكدت أن الجزائر سعت بعد اعتماد القرار 2797 إلى تغيير القرار 693، لكنها قوبلت برفض قاطع من جميع الدول الأعضاء. هذا الرفض يعكس التحول العميق داخل القارة الإفريقية، التي لم تعد مستعدة لمنح النظام الجزائري منصة لمعارك خاسرة.

الهروب من الأمم المتحدة… نحو مسارات جانبية

أمام هذا الانسداد، لجأت الجزائر إلى تكتيك جديد: إعادة ملف الصحراء إلى الاتحاد الإفريقي من خلال “الباب الخلفي”، عبر محاولة إدراج ما يسمى بـ«إعلان الجزائر» ضمن مقررات القمة الإفريقية القادمة حول جرائم الاستعمار. الفكرة بسيطة: إذا كان الاتحاد الإفريقي ممنوعاً من مناقشة النزاع مباشرة، فلنقحمه في إطار آخر.

Screenshot

لكن المشكلة أن هذا «الإطار الآخر» لا علاقة له لا بالاستعمار ولا بالتعويضات، بل هو فقط غطاء لمحاولة كسر الطوق القانوني المفروض عليها.

لقطة “لواندا”… صورة تختزل الفشل

في قمة الاتحاد الأوروبي–الاتحاد الإفريقي في أنغولا، التي عقدت في أواخر نونبر، ظهر أحمد عطاف وهو يحاول – حسب تعبير دبلوماسيين حضروا اللقاء – “افتعال لحظة اهتمام” مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. المشهد، الذي تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي بسخرية واسعة، كشف ما لا يقوله الخطاب الرسمي الجزائري: عزلة دبلوماسية خانقة، وعجز بنيوي عن التأثير في منظمة أممية تحسم بناءً على القانون، لا على الضجيج.

سردية تنهار تحت ثقل الوقائع

في النهاية، لا يتعلق الأمر بمؤتمر حول تجريم الاستعمار ولا بخطاب أحمد عطاف، بل بانهيار سردية كاملة حاولت الجزائر فرضها لعقود. لقد أصبح الإجماع الإفريقي يميل نحو دعم الشرعية الدولية، وأضحى مجلس الأمن أكثر وضوحاً من أي وقت مضى في اعتبار الحكم الذاتي المغربي الإطار الوحيد الممكن.

أما الجزائر، التي كانت تتفاخر يوماً بأنها «صوت إفريقيا»، فقد تحولت إلى نظام يبحث عن صدى في قاعة صاخبة، ولا يجد سوى صدى صوته.

إن محاولة تحويل قضية الصحراء إلى «قضية استعمار» لم تعد تقنع أحداً. والمعركة التي تخوضها الجزائر اليوم ليست مع المغرب، بل مع قرارات لم تعد قابلة للطعن، ومسار دولي لم يعد بوسعها التأثير فيه.

في هذه اللحظة، يبدو أن السؤال الحقيقي ليس: هل ستنجح الجزائر في إعادة الملف إلى الاتحاد الإفريقي؟

بل: إلى أي مدى ستذهب في تجاهل الحقائق قبل الاعتراف بأن المسرح السياسي الدولي لم يعد يقبل الروايات القديمة؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com