المغرب وتثبيت نفوذه الروحي في إفريقيا: قراءة في خلفيات إعلان تأهيل 1500 إمام إفريقي
بوشعيب البازي
يشكّل إعلان وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، أحمد التوفيق، عن تأهيل ألف وخمسمئة إمام إفريقي خلال السنوات العشر الماضية، محطة جديدة في مسار بناء النفوذ الروحي للمغرب داخل القارة الإفريقية. وهو إعلان لا يندرج ضمن منطق التذكير بالأرقام، بقدر ما يعكس مساراً استراتيجياً متواصلاً، بدأت الرباط في هندسته منذ أكثر من عقد، بهدف تعزيز حضورها الديني وتصدير نموذجها في إدارة الشأن الديني.
من فاس… رسالة سياسية وروحية في عمق القارة
جاء هذا الإعلان خلال أعمال الدورة السابعة للمجلس الأعلى لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة بفاس، المدينة التي تشكّل رمزاً للعلم والتصوف ومرجعية التاريخ الديني المغربي. ولم يكن التوفيق، في كلمته، يقدّم مجرّد حصيلة تقنية لبرامج التكوين، بل كان يؤكد أن المغرب أصبح طرفاً مؤثراً في إعادة تشكيل المشهد الديني بالقارة، سواء على مستوى الخطاب الدعوي أو تنظيم الفتوى أو تكوين نخب قادرة على إدارة الحقل الديني.
وما يزيد من رمزية هذا التوجه أن نحو ألف إمام إفريقي آخرين يتابعون حالياً تكوينهم بمعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات؛ ما يرفع حجم الطلب الإفريقي على المرجعية المغربية، ويبرز ثقة دول القارة في نموذج يجمع بين الانسجام الفقهي والاعتدال الفكري والصرامة المؤسسية.
معهد محمد السادس: من مؤسسة وطنية إلى منصة دولية
منذ تأسيسه سنة 2015، تحوّل المعهد إلى ما يشبه “أكاديمية قارية” تستقطب سنوياً مئات الطلبة من إفريقيا جنوب الصحراء، إضافة إلى متدربين من أوروبا وآسيا. ويختلف هذا التكوين عن النمط التقليدي، إذ يجمع بين علوم القرآن والفقه والعقيدة والتصوف، وبين تكوين حديث في القيم الإنسانية، والحوار، وتاريخ الأديان، ومبادئ التعايش.
هذا التنوع جعل المعهد منصة ذات إشعاع دولي، تُخَرِّج أئمة قادرين على مواجهة صعود الخطابات المتشددة التي استفادت، في عدد من الدول الإفريقية، من هشاشة المؤسسات الدينية وضعف التأطير الرسمي.
تنظيم الفتوى… من مطلب محلي إلى نموذج قابل للتصدير
أحد المؤشرات البارزة في الدورة الأخيرة للمجلس الأعلى لمؤسسة العلماء الأفارقة، هو رغبة رؤساء الفروع الوطنية في الاستفادة من التجربة المغربية في تنظيم الفتوى. وتكشف هذه الرغبة عن تحوّل عميق: فالشأن الديني في إفريقيا ظل لعقود مجالاً مفتوحاً على فوضى الفتاوى، ومرتعاً للتيارات المتشددة العابرة للحدود.
اليوم، تقدّم المؤسسة المغربية نفسها كإطار مرجعي قادر على harmoniser الخطاب الديني وضبطه وفق قيم الوسطية، مع نشر شبكة واسعة من الفروع في عشرات البلدان تعمل على التنسيق والتأطير وإعداد مشايخ محليين.
دبلوماسية روحية بأبعاد سياسية
لا يمكن قراءة هذا المشروع خارج سياقه السياسي. فالمغرب يُدرك أن القوة الناعمة الدينية تشكل إحدى أنجع الوسائل لبناء نفوذ طويل الأمد داخل إفريقيا، في منطقة يشهد فضاؤها تنافساً حاداً بين قوى دولية وإقليمية.
وتقوم هذه الدبلوماسية الروحية على عناصر متعددة:
- تكوين الأئمة؛
- إدارة الأوقاف؛
- تأطير الفتوى؛
- بناء علاقات روحية عميقة مع المجتمعات؛
- وإعادة الاعتبار للروابط التاريخية القائمة منذ قرون، خاصة عبر الطرق الصوفية المغربية، مثل التيجانية والقادرية.
وقد مهّد هذا العمق الروحي الطريق لعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي سنة 2017، وأسهم في تعزيز نفوذه الاقتصادي والسياسي داخل القارة.
ما وراء إفريقيا: من الجاليات الأوروبية إلى آسيا
ويبدو أن الرباط لم تعد تنظر إلى تكوين الأئمة باعتباره مشروعاً إفريقيا فقط. فاستقبال المعهد لطلاب من أوروبا وآسيا يكشف توجهاً جديداً يستهدف الجاليات المسلمة، في سياق أوروبي يعرف صعوداً للإسلاموفوبيا ومراجعات مستمرة لنظم تكوين الأئمة.
المغرب، عبر هذا المسار، يقدم نفسه كدولة قادرة على توفير نموذج معتدل، ذي مصداقية، يصلح لمجتمعات تعددية.
مشروع حضاري طويل الأمد
لا يقتصر دور مؤسسة العلماء الأفارقة على دورات التكوين فحسب، بل يشمل ورشاً أكبر، من بينها إعداد خطة لتجديد خطاب التبليغ الديني، إضافة إلى مشروع للاحتفاء بمرور خمسة عشر قرناً على ميلاد الرسول محمد، برؤية تتجاوز الطابع الاحتفالي نحو قراءة حضارية جديدة للقيم النبوية في سياق إفريقي مضطرب.
يُظهر إعلان تأهيل 1500 إمام إفريقي، إلى جانب استمرار تكوين ألف آخرين، حجم التحوّل في الدور المغربي داخل القارة. فالمملكة تبني اليوم مشروعاً دينياً متكاملاً يجمع بين:
- التكوين الأكاديمي،
- تأطير المؤسسات الدينية،
- تنظيم الفتوى،
- تطوير الخطاب الدعوي،
- وتعزيز شبكات التعاون العلمي والروحي.
إنه مشروع يستثمر في الإنسان كما يستثمر في المؤسسة، ويعيد رسم خرائط التأثير الروحي في إفريقيا، على أساس قيم الوسطية والاعتدال، بعيداً عن الاستقطابات الأيديولوجية التي دمّرت تجارب كثيرة في المنطقة.
وبهذا المسار، يصبح المغرب اليوم فاعلاً مركزياً في التحولات الدينية التي تعرفها القارة، وقوة روحية ناعمة قادرة على صياغة مستقبل العلاقة بين الدين والسياسة والتنمية في إفريقيا لسنوات طويلة قادمة.