في خضم الجدل المتصاعد داخل الحقل الإعلامي المغربي، ظهر صوت عبد الله البقالي، عضو لجنة الأخلاقيات والقضايا التأديبية بالمجلس الوطني للصحافة، ليقدم رواية مفصلة حول ما بات يُعرف إعلامياً بـ “تسريب اجتماع لجنة الأخلاقيات”، وهو التسريب الذي لم يعد حدثاً عادياً بل تحوّل – خلال أيام قليلة – إلى ملف رأي عام وطني ودولي، بل وإلى اختبار حقيقي لمدى صلابة المؤسسات المهنية في مواجهة العواصف الرقمية.
من واجب التحفّظ إلى واجب الكلام
البقالي، الذي التزم الصمت طويلاً بحكم موقعه داخل المجلس، أعلن في فيديو مطول على قناته بـ”يوتيوب” أن النقاش الذي أثاره التسريب “لم يعد يسمح له بالصمت”، مؤكداً أن تداول اسمه في سياق القضية فرض عليه الخروج إلى العلن والدفاع عن المسار المهني الذي رافق عمل اللجنة.
لكن ما أثار الانتباه في مداخلته ليس فقط روايته للوقائع، بل تحذيره الصريح من تحويل الملف إلى منصة لتصفية الحسابات الشخصية، وهو ما اعتبره انزياحاً خطيراً عن جوهر المشكلة وتهديداً لصورة مهنة الصحافة نفسها. فوفق تعبيره، لجنة الأخلاقيات خاضت عشرات الجلسات التي احترمت فيها الضوابط المهنية ولم تكن يوماً أداة في يد أي طرف.
التسريب… خط أحمر، والنشر… نقاش مشروع
موقف البقالي من التسريب بدا حاسماً: “سلوك مرفوض وخطير ويعاقب عليه القانون”. لكنّه ميّز بين “التسريب” و“النشر”، معتبراً أن نشر الفيديو من طرف صحفيين أو منصات رقمية يدخل في إطار النقاش العمومي وحق المجتمع في معرفة ما يجري داخل المؤسسات. هذا التفريق، الذي قد يبدو تقنياً للبعض، يفتح الباب أمام سؤال أكبر، ما حدود الشفافية داخل الهيئات التنظيمية؟ ومن يحدد اللحظة التي يتحول فيها النقاش الداخلي إلى شأن عام؟
ولم يُخفِ البقالي امتعاضه من حملات التشهير التي طالت أعضاء اللجنة، معلناً تضامنه معهم، في محاولة واضحة لإعادة النقاش إلى مساره المهني البحت.
ملف المهداوي… من تجديد البطاقة إلى “رائحة الاستهداف”
القضية أخذت منحى أكثر تعقيداً حين مرّ البقالي إلى ملف تجديد بطاقة الصحافة للصحفي حميد المهداوي. فبصفته رئيس لجنة منح البطاقة، أكد أنه اطلع على الملف ووجد أنه يستوفي الشروط ذاتها التي حصل بموجبها المهداوي على البطاقة سابقاً. وبعد مرور المهلة القانونية دون رد، وقّع بالموافقة.
لكن المفاجأة – كما يروي – جاءت حين تم إلغاء القرار وإعادة الملف إلى وضعية “قيد المعالجة”. التبرير كان اعتراض أحد أعضاء اللجنة المكلفين بالصحافة الإلكترونية على أساس أن الدخل الرئيسي للمهداوي يأتي من اليوتيوب. هنا، اعتبر البقالي أن معيار الدخل الرئيسي معيار انتقائي، ولو طُبّق بصرامة لوصل إلى عشرات الصحفيين.
البقالي لم يتردد في إعلان موقفه داخل الاجتماع، وطلب تثبيته في المحضر قبل أن ينسحب، قائلاً إن القرار “تفوح منه رائحة استهداف شخصي”.
تناقض قانوني صارخ: بطاقة تُسحب دون أن تمنح؟
الحكاية لم تنتهِ عند هذا الحد. فبينما صادقت الجمعية العمومية على قرار رفض تجديد البطاقة، عادت لجنة الأخلاقيات لاحقاً لتقرر سحب البطاقة من المهداوي لمدة سنة. وهنا طرح البقالي سؤاله البسيط والمعقد في آن:
“كيف تُسحب بطاقة لم تُمنح أصلاً؟”
هذا التناقض فتح باب التأويلات، ليس فقط حول مسطرة إصدار القرارات، بل حول الانسجام الداخلي للمجلس ذاته.
شكايات مثيرة وأسئلة بلا أجوبة
وفي ما يتعلق بالشكايات التأديبية، أوضح البقالي أن الشكاية الأولى المتعلقة بالتحريض انتهت بقرار “بطلان المتابعة”، مع توصية بحذف الفيديو، وهو ما التزم به المهداوي فوراً. أما الشكاية الثانية، فاعتبرها “غير منطقية”، لأنها جاءت بعد تصريح للمهداوي خارج المحكمة، أي خارج نطاق ما يدخل ضمن مسؤولية الصحفي المهنية.
بل وأكثر، كشف أنه تلقى دعوة لحضور الاجتماع الذي تم تسريبه، لكنه رفض انسجاماً مع موقفه الرافض لمسار يرى أنه لم يعد مهنياً.
خلاصة البقالي: “ما بُني على باطل فهو باطل”
في نهاية مداخلته، أكد البقالي أنه مرتاح الضمير، وأن موقفه ليس له علاقة بأي خلفيات سياسية أو شخصية، وإنما بواجب أخلاقي ومهني. وشدد على أن كل القرارات المبنية على هذه المساطر “باطلة” ويجب مراجعتها في الولاية المقبلة للمجلس.
أزمة ثقة أم أزمة مساطر؟
ما تكشفه رواية البقالي ليس مجرد خلاف داخلي، بل أزمة أعمق تتعلق بـ ثقة الجسم الصحفي في مؤسساته. فالتسريب، وردود الفعل حوله، وإعادة تفسير القرارات، كلها مؤشرات على حاجة ملحّة لإعادة بناء آليات الحكامة داخل المجلس الوطني للصحافة.
القضية لا تتعلق بالمهداوي وحده، بل بمستقبل المهنة في المغرب، وبقدرة المؤسسات المهنية على حماية استقلاليتها ومصداقيتها في زمن أصبح فيه “الفيديو المسرب” أقوى من أي تقرير رسمي.
وإلى أن تُراجع المساطر والشروط والقوانين، ستظل هذه القضية عنواناً لأزمة أعمق: من يحمي الصحفي حين تصبح القرارات المهنية نفسها موضوع مساءلة؟