اياد اغ غالي الامير الذي خرج من تحت عباءة الجزائر حين تتحول الجهادية الى مشروع دولة عميقة
بوشعيب البازي
في المرات القليلة التي يتفق فيها الباحثون في شؤون الساحل، يضحكون بمرارة، «كل طرق الإرهاب في مالي تؤدي إلى عنوان واحد… الجزائر». وبين ضحكة وغمزة، يظهر اسم إياد أغ غالي، ذاك الرجل الذي يسير بخطى مهرّج على مسرح الجهاد، وبجدية جنرال في لعبة الأمم. فالمتمرد الذي بدأ حياته بين أكواب الويسكي وقيثارات «تيناريوين»، انتهى—بمعجزة هندسة جزائرية—زعيمًا لتحالف «القاعدة» في الساحل، ومطلوبًا دوليًا بجرائم حرب، ومقيمًا مكرّمًا في تين زاواتين.
برسم السخرية السوداء، كيف يتحول مغنٍ طوارقي يرتاد ملاهي باماكو إلى «أمير» جهادي يخشاه الغرب؟ وكيف يصبح وسيطًا لتحرير رهائن في النهار، وبائعًا للموت في الليل؟ الجواب مختصر، صنع في الجزائر.
من ملاهي غرب إفريقيا إلى مخيمات القذافي ، سيرة رجل بلا أيديولوجيا
قبل أن تتقمصه اللحى الطويلة والبيانات الشرعية، كان إياد أغ غالي شابًا علمانيًا يساريًا، يكتب الأغاني أكثر مما يقرأ كتب الفقه، ويشرب الويسكي أكثر مما يصلّي. التحق بكتائب القذافي في ليبيا كمرتزق «موسمي»، يجري وراء رزقه بين لبنان وتشاد، ثم يعود إلى الحانات حين تهدأ المدافع. سيرة رجل مُنقّى من أي قناعة، إلا قناعة واحدة: الانتهازية الحادة.
ولذلك وصفه تقرير دبلوماسي أمريكي مسرّب عام 2008 بأنه «انتهازي بلا ضمير قادر على ارتداء كل الأقنعة لتعظيم مكاسبه». وهو التوصيف الأكاديمي المهذب لعبارة الشعب الساحلي: «رجل يلعب على كل الحبال».
تمنراست… حيث تبدأ الحكاية الحقيقية
عام 1990، حملته مفاوضات تمنراست إلى حضن أجهزة الجزائر. لم تكن صدفة، ولم تكن جلسة «تعارف». كان تجنيدًا كامل الأركان. هكذا خرج الرجل من صفة «متمرد مزعج» إلى «أداة استراتيجية». أُدرج في الدولة المالية مستشارًا ودبلوماسيًا، مع بقاء سلكه السري مربوطًا في مكتب جنرال جزائري.
المشهد كاريكاتوري: ذئب يقتحم القطيع ببطاقة دبلوماسية.
قنصل في جدة… أم طالب لجوء جهادي؟
في نوفمبر 2007، دفعت الجزائر بعميلها نحو السعودية قنصلاً لمالي. التفسير الرسمي، «التدين». التفسير الواقعي، إرسال الرجل لمعسكر إعادة التكوين الجهادي تحت غطاء دبلوماسي.

هناك، عاش أربع سنوات في كنف الوهابية، بين خطب التشدد وزيارات أسبوعية لمكة، قبل أن تطرده الرياض عام 2010 بسبب علاقته بالقاعدة. خرج مُحملاً بزاد عقائدي، ومستعدًا لأكبر تحول في حياته.
الطريف أن مروره السريع عبر باريس—قبل عودته إلى مالي—يعده الكثيرون خطأً استخباراتيًا فرنسيًا فادحًا. فقد كان وقتها يزور مساجد سرية ويلتقي مبعوثين جزائريين، بينما فرنسا تتفرج عليه كما لو كان سائحًا ضائعًا في الشانزليزيه.
2012: أنصار الدين… حين يصبح الأمير «هولوغرامًا» جزائريًا
بعد عودته إلى مالي، رفضته الحركة الوطنية لتحرير أزواد، ورفضته قبيلته، ورفضه حتى ابن عمومته. فقرر الانتقام عبر تأسيس «أنصار الدين»—مشروع جهادي مصنوع على المقاس الجزائري.

لم تكن الحركة سوى «فرانشايز» محلية للقاعدة، تُدار عن بعد من مكتب مظلم في الجزائر. خلال أشهر قليلة، خان إياد حلفاءه الطوارق، أطاح بالـMNLA، وسيطر على كيدال وغاو وتمبكتو، وفرض نسخته الخاصة من الجهاد، وهو الذي كان يعزف الموسيقى قبل سنوات.
تحولت مدن الشمال إلى مختبر للشريعة المتشددة:
- حُظر الغناء… على يد مغنٍ سابق
- نُفّذ الرجم… على يد من كان يرتاد الملاهي
- دُمرت أضرحة تمبكتو… على يد رجل كان يكتب الأغاني
لو لم تكن مأساة، لكانت مسرحية سوداء مكتوبة بإتقان.
سرفال… حين ساعدت الجزائر فرنسا بطريقة تخدم إياد
في 2013 تدخلت فرنسا بطلب من مالي. وعلى الورق، تعاونت الجزائر: فتحت مجالها الجوي وأغلقت حدودها. لكن على الأرض، ظل الرجل يختفي ضمن «الفراغات الرمادية» التي لا يدخلها إلا من يحمل بطاقة حماية جزائرية غير مرئية.

النتيجة:
- تفككت أنصار الدين
- قُتل المئات من المقاتلين
- وهرب الجميع
إلا هو.
لم تطله حرب فرنسا، ولا عيون استخباراتها، ولا رادارات طائراتها.
لأن مكانه كان ببساطة، الجانب الجزائري من الحدود.
2015–2024: اتفاقات الجزائر… سلام مُفخّخ ومفاوضات من تحت الطاولة
رسمياً، رعت الجزائر اتفاق السلام. فعلياً، كانت تُخفي شريكها خلف الستار. تقارير أممية فرنسية وبمالية كشفت «تواطؤًا بنيويًا» بين الوساطة الجزائرية وإياد.
في 2017 أصبح زعيم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”، الفرع الساحلي للقاعدة، وأميرًا معتمدًا للظواهري. ومنذ ذلك الحين، نفّذ الرجل هجمات على مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وعلى القوات الفرنسية تحديدًا.
ومع كل دم يسيل، لم يظهر له أثر…
إلا في تين زاواتين، داخل الجزائر، حيث تقول تقارير أنه تلقى علاجًا طبيًا في مستشفى عسكري عام 2016. ونجا من محاولة تحييد غربية لأن «يدًا جزائرية» أخرجته قبل الدقيقة الأخيرة.
2025: إسقاط الدرون… حين فقدت الجزائر صبرها
في أبريل 2025، أسقط الجيش الجزائري طائرة مسيرة مالية قرب الحدود. كان الهدف واضحًا: منع الماليين من استهداف إياد في مخبئه. انفجرت أزمة دبلوماسية، وأُغلقت الأجواء، ووصلت القضية إلى محكمة العدل الدولية.
في الأمم المتحدة، اتهمت مالي الجزائر مباشرةً بـ«حماية أخطر إرهابي في الساحل». تحوّل الهمس إلى خطاب رسمي.
رجل واحد… يختصر نظرية «الفوضى المنضبطة»
إياد أغ غالي ليس زعيمًا جهاديًا بقدر ما هو أداة هندسة استراتيجية بيد النظام الجزائري.
سيرته ليست نبوغًا، بل صناعة؛ ليست تدينًا، بل توظيفًا؛ ليست مصادفة، بل سياسة.
واليوم، بينما يتساءل العالم: كيف ينجو رجل مطلوب دوليًا منذ 30 سنة؟
كيف يصمد بعد سقوط كل حركاته؟ كيف يتحرك بين الحدود دون أن يلمسه أحد؟
الجواب بسيط:
لأن ظله ممتد من جبال إيفوغاس إلى مكاتب الاستخبارات الجزائرية.
وما لم ينكشف هذا الظل، ستظل مالي رهينة رجل بدأ حياته مغنيًا… وانتهى «أميرًا» من ورق، تحركه يدٌ في الجزائر لا تحب أن يستقر الساحل يومًا واحدًا.