أوجار يكشف البنية العميقة للسلطة في المغرب: بين مركزية القرار وحدود الفعل الانتخابي

بوشعيب البازي

شهدت كلية الحقوق بالرباط، يوم الأربعاء، مداخلة أثارت اهتمام الباحثين والفاعلين السياسيين على حدّ سواء، قدّمها محمد أوجار، الوزير الأسبق والقيادي في حزب التجمع الوطني للأحرار. ما صدر عنه لا يمكن اعتباره مجرد تصريح سياسي عابر، بل هو أقرب إلى تفكيك بنيوي لطبيعة السلطة في المغرب واستدعاء لنقاش مؤجل حول موقع المؤسسات المنتخبة في منظومة الحكم.

مركزية القرار وتضييق المجال السياسي

أبرز أوجار أن الأحزاب السياسية تمارس أدواراً محدودة داخل النسق المؤسساتي، مُشيراً إلى أنّ المنتخبين المحليين والجهويين «لا يسيطرون إلا على أقل من 10 بالمئة من الموارد المالية»، مقابل هيمنة شبه كاملة للولاة والعمال وأجهزة وزارة الداخلية على مسار اتخاذ القرار.

هذا التشخيص لا يقدّم معطى جديداً بقدر ما يمنح شرعية داخلية لما كان يُتداول في الأبحاث الأكاديمية حول مركزية الدولة وطبيعة “اللامركزية المُقيّدة”. فالتدبير المحلي، وفق هذا النسق، لا يتيح فعلاً إمكانيات كافية للفاعلين المنتخبين للاضطلاع بمهامهم التمثيلية.

 إعادة تعريف مفهوم الفساد السياسي

من النقاط الأكثر إثارة في مداخلة أوجار رفضه لحصر مسؤولية الفساد في المنتخبين وحدهم. فقد دعا إلى فهم أكثر تركيباً للظاهرة، متسائلاً:

  • كيف يمكن لرئيس جماعة أن يستمر في الممارسات غير القانونية طوال عقود؟
  • وأيّ مؤسسات أخرى تشارك في تدبير وإبرام الصفقات العمومية؟
  • وما طبيعة آليات الرقابة الفعلية على المستوى المحلي؟

بهذه الأسئلة، يشير أوجار إلى أنّ الفساد ليس مجرد انحراف فردي، بل هو بنية تشاركية تتقاطع فيها مصالح إدارية وسياسية، ما يجعل مسؤولية المعالجة تتجاوز منطق “تضحية بالمنتخب” إلى مساءلة أوسع للهندسة المؤسسية ذاتها.

البيروقراطية كسلطة موازية

أوجار قدّم مقاربة تستند إلى التحليل التاريخي، عندما اعتبر أن الوزير الجديد يجد نفسه «رهينة لبيروقراطية ثقيلة موروثة عن مرحلة إدريس البصري». هذه الإشارة ليست مجرد نقد سياسي، بل هي إحالة على ما يسميه علم السياسة بـاستمرارية الدولة العميقة أو Path Dependency، حيث يستمر الجهاز الإداري في إعادة إنتاج نفسه وممارساته رغم تغير السياقات السياسية.

فالعلاقة القائمة بين الوزير والمديرين والكتاب العامين، كما وصفها أوجار، تعكس نوعاً من الازدواجية السلطوية التي تحدّ من فعالية السياسات العمومية، وتُضعف مبدأ المسؤولية السياسية.

ملف الصحراء كمنعطف دستوري

ربط أوجار بين التحولات الأخيرة في قضية الصحراء والضرورة الملحة لإصلاح دستوري جديد. فوفق قراءته، يواجه المغرب مفارقة مؤسساتية واضحة:

  • في الأقاليم الجنوبية، يتجسّد نموذج حكم ذاتي فعلي بآليات تدبير واسعة،
  • بينما في باقي الجهات، ما تزال ممارسة السلطة رهينة لتراتبية عمودية تُقيد المنتخبين.

هذا التحليل يفتح الباب أمام سؤال محوري في الأدبيات الدستورية: هل يمكن لمنظومة جهوية غير متناظرة أن تستمر في المدى البعيد دون إعادة توزيع للسلطات بما يضمن اتساقاً مؤسساتياً وطنياً؟

أزمة التمثيلية داخل البرلمان

عاين أوجار، بنبرة لا تخلو من النقد الذاتي، اختلالات عميقة في المؤسسة التشريعية؛ حيث أصبحت المقاعد البرلمانية أقرب إلى امتيازات قُطاعية يحتفظ بها «رجال الأعمال القادرون على تغطية كلفة العمل الانتخابي»، بينما تمر النخب الشبابية والنسائية مروراً عابراً دون قدرة على ترسيخ حضور مؤثر.

هذا التشخيص ينسجم مع الدراسات الحديثة حول أزمة الوساطة الحزبية وتراجع الأدوار التقليدية للأحزاب في إعادة إنتاج النخب السياسية.

نحو إعادة تشكيل هندسة السلطة

ما قدّمه أوجار يتجاوز التصريح السياسي إلى ما يمكن تسميته بـدعوة لإعادة التفكير في بنية الدولة واللامركزية والحكامة الديمقراطية. فالمعطيات التي طرحها تؤكد وجود فجوة بين النص الدستوري والممارسة الفعلية، وبين منطق التمثيل ومنطق القرار.

هذا الخطاب يحمل أكثر من دلالة:

  • إنه صادر من داخل الحزب الذي يقود الحكومة،
  • وهو يعبر عن وعي متزايد داخل النخبة السياسية بضرورة الانتقال إلى مرحلة مؤسسية جديدة،
  • كما أنه يسلط الضوء على حدود الإصلاح من داخل النسق نفسه دون مراجعة أدوات السلطة.

في السياق الأكاديمي، يمكن اعتبار مداخلة أوجار وثيقة تحليلية مهمة لقراءة التوازنات السلطوية في المغرب، ولتقييم مستوى تقدم مشروع الجهوية والانتقال الديمقراطي.

إنها لحظة تعيد فتح النقاش حول سؤالٍ ظل حاضراً في صلب الأدبيات السياسية المغربية:

كيف نُعيد توزيع السلطة بما يضمن الفعالية والمحاسبة في آن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com