المغرب يدخل مرحلة تفاوضية جديدة: واشنطن على الخط وصيغة مُحسّنة للحكم الذاتي تقترب من الأمم المتحدة
بوشعيب البازي
في تحوّل دبلوماسي لافت، كشف وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أن قرار مجلس الأمن الأخير “حدّد للمرة الأولى العناصر الأساسية للعملية التفاوضية”، عبر تثبيت الأطراف المعنية وإقرار الهدف النهائي: حكم ذاتي حقيقي تحت السيادة المغربية. لكن الإشارة الأكثر رمزية كانت تأكيده أن الولايات المتحدة ستحتضن الجولات المقبلة من المفاوضات، وهو تطور يفتح الباب أمام مرحلة جديدة يطغى عليها منطق الحسم أكثر من منطق إدارة الأزمة.
هذا الزخم يأتي في سياق تحضير الرباط لنسخة مُحسّنة من مبادرة الحكم الذاتي، جذبت انتباه الفاعلين الدوليين منذ 2007، ليُعاد اليوم تقديمها في قالب مؤسساتي أكثر نضجاً وتفصيلاً، استجابةً لبيئة إقليمية ودولية باتت ترى في النموذج المغربي خياراً عملياً لتفادي الفراغ الأمني الذي تهدّد به مشاريع الانفصال.
لا موعد محدداً… لكن القرار اتُّخذ
بوريطة أوضح في حديثه لوكالة إيفي الإسبانية أنه لا تاريخ محدداً بعد لانطلاق المفاوضات، وأن المملكة تنتظر دعوة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا “في الوقت المناسب”. لكنه شدد على أن الرباط ثابتة في التزامها بالقرار الأممي، ومستعدة للتفاعل مع أي مبادرة تقود إلى حل نهائي ومستدام، شرط أن تتحرك داخل الإطار الوحيد المقبول مغربياً: مبادرة الحكم الذاتي.
ولم يتردد وزير الخارجية في رفض أي آلية دولية لمراقبة تنفيذ الحكم الذاتي، معتبراً أن نجاح المبادرة يستمد شرعيته من الثقة التي تحظى بها دولياً، لا من تعددية الهياكل الرقابية. رسالة غير مباشرة مفادها أن المغرب لم يعد مستعداً للعودة إلى صيغ تفاوضية تجاوزها الزمن.
صياغة مغربية مُدامجة: الأحزاب على طاولة المطبخ الدبلوماسي
في الكواليس، تنكبّ الرباط على دراسة مذكّرات الأحزاب السياسية حول تصورها للإدماج المؤسساتي للحكم الذاتي في الجنوب: توزيع الاختصاصات، الضمانات الدستورية، الهندسة الإدارية، وآليات تدبير الثروات. الهدف هو تجميع وثيقة مرجعية موحّدة تُرفع للأمم المتحدة خلال الأشهر المقبلة.
هذه المقاربة التشاركية تعكس محاولة المغرب تحويل مبادرة 2007 إلى “دستور مصغّر” للجهة الجنوبية، يعطي للمفاوضات القادمة أرضية أكثر صلابة، ويُظهر للمجتمع الدولي نضجاً مؤسساتياً يعزز مصداقية الطرح المغربي.
البُعد الأمني: الحكم الذاتي كجدار صد
محمد الطيار، رئيس المرصد الوطني للدراسات الإستراتيجية، يرى أن المشاركة المغربية في المفاوضات لا تعني بأي حال التفاوض حول السيادة، بل هي وسيلة لإغلاق ملف طال أمده تحت سقف الحكم الذاتي.
ويذهب الطيار أبعد من ذلك، معتبراً أن التحولات الإقليمية تفرض الانتقال من فهم “السياسي التفاوضي” للحكم الذاتي إلى فهم “الأمني الإستراتيجي”. فالمبادرة — من وجهة نظره — أصبحت ركيزة لحماية الأمن القومي ضد تهديدات الفوضى العابرة للحدود، وجداراً يحول دون سيناريوهات الانفصال التي تضرب استقرار الشمال الإفريقي.
كما يربط المتخصص هذا التحول بارتفاع منسوب الدعم الدولي للمغرب في أوروبا والخليج والولايات المتحدة، ما يمنح الرباط هامش مناورة أوسع في المرحلة المقبلة.
تقرير كونراد أديناور: القرار 2797 يقلب الطاولة
تقرير صادر عن مؤسسة كونراد أديناور الألمانية، أُعد بتعاون مع مؤسسة الحوكمة والسيادة العالمية، قدّم قراءة أكثر جرأة. فحسب التقرير، القرار الأممي 2797 جعل مبادرة المغرب للحكم الذاتي الإطار الوحيد المعتمد دولياً للحل، واضعاً باقي الأطراف خارج السياق التفاوضي الفعلي.
وأشار التقرير إلى أن:
- الجزائر لم يعد بإمكانها الاكتفاء بالرفض كما في السابق، خاصة مع تنامي النفوذ الأمريكي في ملفات الأمن والطاقة والمؤسسات المالية الدولية.
- البوليساريو تواجه تضييقاً غير مسبوق، مع اقتراب تصنيفها أميركياً ككيان إرهابي، وهو ما يحدّ من قدرتها على المناورة.
- المسار الوحيد القابل للتطبيق يتمثل في المشاركة في المناقشات التي ستحتضنها واشنطن.
التقرير خلص إلى أن الولايات المتحدة ستطالب الجزائر والبوليساريو بإجراءات ملموسة بدل الطقوس الدبلوماسية المعتادة، بينما يمتلك المغرب أفضل موقع للتجاوب جوهرياً مع المبادرة الأمريكية، عبر تقديم نسخته المحسّنة من الحكم الذاتي كخطوة عملية على طريق تثبيت الاستقرار الإقليمي.
نحو مرحلة تفاوضية بشروط مغربية
من الواضح أن الرباط تدخل هذه الجولة التفاوضية القادمة — متى عُقدت — من موقع قوة. فالدعم الأميركي، والتحول الأممي، والتوافق الداخلي حول تطوير بنية الحكم الذاتي، كلها عناصر تُعيد تشكيل قواعد اللعبة.
لم تعد القضية اليوم مجرد نزاع إقليمي مفتوح، بل ملفاً يقترب من نهايته السياسية، وسط إدراك دولي متزايد بأن النموذج المغربي هو الوحيد القادر على إنتاج الاستقرار والتنمية، فيما تبدو الأطراف الأخرى محاصرة في اصطفافاتها القديمة.
المغرب يستعد لتقديم صيغة متقدمة للحكم الذاتي… والعالم هذه المرة يبدو مستعداً للاستماع.