قضية كريستوف غلير: من محاكمة صحفي إلى أزمة بنيوية تعيد تأجيج التوتر بين الجزائر وفرنسا
بوشعيب البازي
تحولت قضية الصحفي الفرنسي كريستوف غلير، المحكوم بالسجن سبع سنوات في الجزائر، إلى نقطة اشتباك جديدة في مسار العلاقات الجزائرية–الفرنسية، بعدما خرجت من إطارها القضائي الضيق لتأخذ أبعاداً سياسية وإعلامية تتجاوز بكثير طبيعة التهم الموجهة إليه. فمنذ تأييد محكمة الاستئناف في تيزي وزو للحكم، سارعت وسائل الإعلام الجزائرية إلى إطلاق حملة منظمة تصف الموقف الفرنسي بـ“النفاق”، مقدمةً القضية باعتبارها امتداداً لمحاولة باريس التأثير في القضايا الداخلية للجزائر، خصوصاً ما يتعلق بملف منطقة القبائل والذاكرة الاستعمارية.
اللافت في الخطاب الإعلامي الجزائري هو مستوى التنسيق العالي، الذي يعكس إدارة مركزية للرواية الرسمية، حيث ركزت الصحف الكبرى على تصوير غلير بوصفه “صحفياً مزعوماً” أو “سائحاً متنكرًا” يسعى إلى تمرير رواية انفصالية مرتبطة بحركة الماك. هذا التوصيف لم يكن مجرد تعبير صحفي، بل جزءاً من بناء سردية تعتبر أن الاعتقال والحكم القضائي يشكلان دفاعاً عن السيادة الوطنية في مواجهة ما تراه الجزائر “اختراقاً فرنسياً ناعماً” عبر بوابة حرية الصحافة.
في المقابل، لم تتأخر فرنسا في إعادة تأطير القضية ضمن منظور حرية التعبير، إذ نشرت أكثر من 300 وسيلة إعلام بياناً مشتركا يصف الحكم بأنه “غير مبرر”، فيما اعتبرت منظمات دولية مثل مراسلون بلا حدود ولجنة حماية الصحفيين أن الملف يفتقر إلى الأدلة الجدية. وتذهب هذه المنظمات إلى أن الاتصالات التي جمعته بشخصيات قبائلية سبقت تصنيف الماك منظمة إرهابية، وأن الخطأ الوحيد الذي أقر به غلير كان دخول البلاد بتأشيرة سياحية وليس صحفية.
هذا التباين الحاد في السرديات يأتي في سياق دبلوماسي متوتر أصلاً، مع اقتراب موعد “الإعلان الرمزي لاستقلال القبائل” المقرر في باريس في ديسمبر 2025، وهو حدث تعتبره الجزائر استفزازاً يمس جوهر سيادتها. وتقرأ الصحافة الجزائرية الموقف الفرنسي كمؤشر على ازدواجية في التعامل مع قضايا الإرهاب والانفصال، بينما تعتبره باريس جزءاً من حرية التنظيم داخل أراضيها، ما يضع العلاقة بين البلدين أمام اختبار حساس.
أما على مستوى التحليل الجيوسياسي، فإن قضية غلير تكشف عن ثلاث طبقات مركزية في المشهد: أولها هشاشة العلاقات بين الجزائر وفرنسا، حيث يمكن لحادث فردي أن يتحول إلى أزمة دولة؛ وثانيها استمرار تسييس الإعلام في البلدين، وإن كان ذلك بأدوات وخلفيات مختلفة؛ وثالثها أن ملف منطقة القبائل لا يزال يمثل عقدة استراتيجية تعيد إنتاج التوتر بين العاصمتين. وهذا ما يجعل القضية مرشحة للاستمرار في واجهة الأحداث مع اقتراب جلسات محكمة النقض، التي قد تفتح الباب أمام مسار تفاوضي غير معلن بين الجزائر وباريس.
في المحصلة، يبدو أن قضية كريستوف غلير لم تعد حكراً على القضاء الجزائري، بل صارت مرآة لعمق الخلافات البنيوية بين البلدين، ولطبيعة التداخل بين الإعلام والسيادة والأمن القومي في فضاء سياسي شديد الحساسية.