بوليساريو… العجز عن قراءة التحولات الدولية في ملف الصحراء المغربية

بوشعيب البازي

في الوقت الذي تُعاد فيه صياغة التوازنات الإقليمية حول ملف الصحراء المغربية بوتيرة غير مسبوقة، يبدو أن جبهة البوليساريو ما تزال حبيسة خطابٍ قديم لم يعد ينسجم مع طبيعة المرحلة. آخر تعبير عن هذا الارتباك ما جاء على لسان زعيمها، إبراهيم غالي، الذي وجّه انتقادات حادة للاتحاد الأوروبي وإسبانيا، متهماً بروكسيل بـ”التحايل” على قرارات محكمة العدل الأوروبية، ومحمّلاً مدريد ما وصفه بـ”المسؤوليات التاريخية” إزاء النزاع.

هذه التصريحات لا تكشف، في جوهرها، سوى حالة فقدان البوصلة داخل مخيمات تندوف، بعدما تهاطلت الاعترافات الدولية المتتالية الداعمة للمبادرة المغربية للحكم الذاتي باعتبارها الأساس الواقعي والوحيد للحل، وتحوّل إسبانيا—التي كانت تُعدّ يوماً ما سنداً سياسياً للجبهة—إلى داعم صريح ومركزي للموقف المغربي داخل أوروبا.

إسبانيا… من الحياد الرمادي إلى الاصطفاف الواضح

الهجوم الذي شنه غالي على الحكومة الإسبانية يعكس حجم الصدمة داخل الجبهة بعد التحول الجذري في موقف مدريد، التي أعلنت بشكل رسمي تبنيها مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، معتبرة إياها “الأساس الأكثر جدية ومصداقية” لتسوية النزاع. هذا التحول، الذي كرّسته القمة المغربية–الإسبانية الأخيرة، كشف عن توازنات جديدة في أوروبا، وأعاد ترتيب الأوراق داخل الاتحاد الأوروبي الذي بات يتعامل مع مقترح الحكم الذاتي بوصفه الإطار الواقعي الذي يمكن البناء عليه.

وفي هذا السياق، يؤكد محمد سالم عبد الفتاح، رئيس المرصد الصحراوي للإعلام وحقوق الإنسان، أن تصريحات غالي “تبرز مدى تأثر البوليساريو بالموقف الإسباني المتقدم، المنخرط في شراكات استراتيجية متعددة الأبعاد مع المغرب، والداعم لخريطة الطريق الأممية التي تضع الحكم الذاتي في صلب المسار السياسي”.

ويضيف قائلاً: “تحوّلت مدريد من داعم تقليدي للجبهة إلى داعم رئيسي للمملكة، وهو تحول امتد تأثيره من داخل أوروبا إلى أميركا اللاتينية، ما يجعل البوليساريو تستشعر تداعياته المباشرة على مشروعها الانفصالي”.

دينامية أممية وأوروبية تضع الحكم الذاتي في قلب الحل

تزامنت تصريحات زعيم الجبهة مع اجتماع اللجنة العليا المغربية–الإسبانية في دورتها الثالثة عشرة، حيث عبّرت مدريد عن ارتياحها للتطور الأممي الأخير الداعم لجهود الأمين العام ومبعوثه الشخصي، بالاعتماد على المبادرة المغربية للحكم الذاتي، في إشارة واضحة إلى انسجام الموقف الإسباني مع التوجه الأوروبي العام.

وأصبح جلياً أن الاتحاد الأوروبي يتعامل اليوم مع الأقاليم الجنوبية للمملكة باعتبارها مجالاً اقتصادياً واستراتيجياً متكاملاً مع باقي التراب المغربي، بعيداً عن الروايات القديمة التي تحاول الجبهة إعادة تدويرها دون جدوى.

ملف العائدين… محطة مركزية في رؤية المغرب للمستقبل

بالتوازي مع التحولات الدبلوماسية، يتصاعد النقاش داخل المغرب حول مستقبل العائدين من مخيمات تندوف وكيفية إدماجهم في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للأقاليم الجنوبية. فقد دعت مجموعة “السلام والعودة بكرامة” المجلسَ الاستشاري للشؤون الصحراوية (الكوركاس) وشيوخ القبائل إلى صياغة مشروع مؤسساتي مشترك يضمن انتقالاً آمناً وكريماً للراغبين في العودة، مع توفير شروط الاندماج والاستقرار.

وترى المجموعة أن تعدد الدعوات وغياب برنامج عملي واضح يشكل أحد معيقات التحاق العديد من الأسر بوطنهم. وهو ما ينسجم مع خطاب الملك محمد السادس بمناسبة صدور القرار الأممي 2797، حيث وجّه عاهل البلاد “نداءً صادقاً” لسكان مخيمات تندوف للعودة إلى الوطن والاستفادة من الفرص التي يتيحها الحكم الذاتي في تدبير شؤونهم المحلية والمشاركة في بناء مستقبلهم داخل المغرب الموحد.

وفي خطوة مكملة، اقترحت الرابطة المغربية للمواطنة وحقوق الإنسان إحداث “هيئة المصالحة والتنمية الصحراوية” لمعالجة آثار الانفصال، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للعائدين، وتعزيز اللحمة المجتمعية، إضافة إلى إدماجهم في الوظائف العمومية الجهوية.

ويعتبر العباس الوردي، أستاذ القانون الدولي، أن “البنية المؤطرة لاندماج العائدين ستكون ذات خصوصية متعددة الأبعاد، تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، مع دور محوري لشيوخ القبائل الصحراوية في تكريس المصالحة وتعزيز الاستقرار”.

نحو رؤية جديدة… تتجاوز خطاب الماضي

إن المتتبع لمسار القضية خلال السنوات الأخيرة يلحظ بوضوح أن مركز الثقل الدولي انتقل نحو مقاربة واقعية قائمة على تثمين مبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها الطريق العملي والأكثر قابلية للتنفيذ. وفي المقابل، تبدو الجبهة عاجزة عن استيعاب حجم المتغيرات التي أطاحت بمفاهيم كانت تعتبرها “مسلمات”.

وإذا كان خطاب القيادة الانفصالية ما يزال يستحضر مفردات الحرب الباردة، فإن الواقع الجيوسياسي يؤكد أن الدينامية اليوم تتحرك في اتجاه آخر تماماً: اتجاه الحل، والاستقرار، والاندماج، وطي صفحة المعاناة الإنسانية لمخيمات تندوف.

وبينما يستمر المغرب في تقوية مساره التنموي والحقوقي في الأقاليم الجنوبية، يبقى السؤال الحقيقي موجهاً إلى قيادة البوليساريو: إلى متى يمكن تجاهل التحولات الدولية قبل أن يتحول العجز عن القراءة إلى عزلة سياسية كاملة؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com