نظامٌ يخاف أشباحه: لماذا يُبقي تبون عبد المومن خليفة في السجن بعد انتهاء عقوبته؟

بوشعيب البازي

Screenshot

بين أكتوبر 2025 واليوم، لم يتغير شيء في زنزانة عبد المومن رفيق خليفة. تغيّر العالم، تغيّرت أنظمة، تغيّرت أسعار النفط وخرائط التحالفات… لكن بوابة سجنه بقيت مغلقة بإصرار غريب، كما لو أنّ المفتاح ضاع في جيب مسؤول كبير لا يريد أن يعثر عليه. الرجل أنهى عقوبته على الورق، لكن في الجزائر تُكتب نهاية العقوبات بقلم سياسي لا بقلم قانوني. والخوف الأكبر داخل هرم السلطة هو أن خروج «فتى الألفين الذهبي» سيوقظ قضية ظنّ النظام أنه دفنها تحت أكوام النسيان.

الرجل الذي يعرف أكثر مما ينبغي

خلف الجدران، يوجد رجل لا يُحتجز بسبب ما ارتكبه، بل بسبب ما يعرفه. عبد المومن خليفة ليس مجرد رجل أعمال سقط في حفرة الفساد. هو مرآة تعكس حقبة كاملة من العبث المالي والسياسي في الجزائر. مرآة يريد النظام اليوم تحطيمها قبل أن يرى المواطنون الصورة كاملة. لذلك، ورغم أن عقوبته انتهت نظرياً في 24 أكتوبر 2025، ورغم احتسابه لسنوات التوقيف في بريطانيا والجزائر، إلا أن أحداً لم يقترب من باب زنزانته. لا وثيقة إفراج، لا إعلان، لا مبرر. صمت إداري كامل… وصمتٌ كهذا في الجزائر لا يعني الجهل بالقانون، بل الخوف من القانون.

نظام يشتغل بسرعة البرق… عندما يريد

في البلد نفسه، أُطلق سراح الروائي بوعلام صنصال فور إعلان العفو، لأنه – ببساطة – طلب ذلك الرئيس الألماني. مكالمة واحدة كانت كافية. وهنا تكمن السخرية المرّة: النظام الذي يستطيع فتح باب سجن في جملة واحدة، يعجز عن فتح باب رجل أنهى حكمه منذ أشهر. ليس عجزاً بالطبع، بل قرار. قرار سياسي، بامتياز سياسي، لحماية سياسي آخر.

خليفة: من نجومية تُبهر بوتفليقة إلى انهيار يربك الجميع

من ينسى سنوات الألفين؟ حين كان خليفة يتجوّل بين مشاريع البنوك، والطيران، والإعلام، كأنه تجسيد لجزائر جديدة أراد بوتفليقة تزيينها ولو بالكرتون المقوّى. كان «مشروع البلد» آنذاك يشبه ديكوراً سينمائياً: واجهة لامعة يخفي وراءها خدوشاً كثيرة. ثم جاء عام 2002، وسقط بنك خليفة سقوطاً مدوياً، لينكشف أن «الواجهات» ليست سوى شبكة هائلة من التلاعبات والاختلاسات، شاركت فيها مؤسسات عامة وبأوامر من فوق. أكثر من 70 مسؤولاً ظهرت أسماؤهم في الملف. لكن القصة الأكثر إرباكاً هي تلك التي تلامس اسم عبد المجيد تبون نفسه.

 

تبون… الفاعل الظلّي في ملف المال العام

كان تبون في تلك الحقبة وزيراً للسكن، والـ OPGI التي تُدير أموال السكن العمومي كانت تحت سلطته المباشرة. شهادات بعض مديريها أكدت أن أوامر الإيداع في بنك خليفة جاءت من «الوزير». ومع أن المحكمة اكتفت بوصفها «تعليمات عليا»، إلا أنّ السلسلة لم تُستكمل حتى نهايتها، لأن نهايتها كانت تؤدي إلى اسم ثقيل.

ثم جاءت الفضيحة الثانية: بطاقة «ماستركارد» الغامضة التي تحمل اسم تبون، والتي دُفع بها ثمن علاج وإقامة في باريس سنة 2002، بقيمة 34 ألف دولار. تبون نفسه قال إنه لا يملك حساباً في بنك خلييفة. ممتاز. لكن البطاقة موجودة، والفواتير مدفوعة، ولا أحد يعرف كيف ولماذا. وثيقة نشرتها «الخبر» ثم سُحبت تحت ضغط ما، كشفت قائمة شخصيات استفادت من بطاقات مماثلة. بينها… الرئيس الحالي. أي بلد آخر كان كفيلاً بأن تُنهي هذه القصة المسار السياسي لصاحبها، إلا في «جمهورية المعجزات» حيث تتحوّل الفضائح إلى سلالم للترقي.

من متهم إلى رئيس… عبر طريق مُعبّد بالفضائح

في 2007، استمع القضاء لتبون كمتهم. وفي 2012 وُجهت له تهم خطيرة: تبديد مال عام، اختلاس، استغلال معلومات. لكنه خرج بكفالة، ثم عاد للحكومة، ثم عُيّن وزيراً أول، ثم… أصبح رئيساً سنة 2019. هكذا ببساطة: من ملفات الفساد إلى قصر المرادية.

وما دام الرجل اليوم في السلطة، فإن عودة خليفة إلى العلن ليست مجرد حدث قضائي، بل زلزال سياسي. زلزال يهدد رواية النظام حول “الرئيس النظيف”، ويعيد فتح ملفات يسعى الجميع لعدم لمسها.

جثث في الخزانة… وأخرى في الطريق

المعطيات تُظهر أيضاً أن أسماء أخرى ما تزال في الواجهة قد تجد نفسها في قلب الزوبعة، مثل سعيد سعيود، وزير الداخلية الحالي والمقرّب من تبون، والذي كان يدير أحد مكاتب الـ OPGI عندما كانت الأموال تتدفق إلى مملكة خليفة. إعادة فتح الملف تعني إعادة فتح التاريخ، وإعادة فتح المسؤوليات، وإعادة فتح كل ما أُغلق عمداً منذ عقدين.

خليفة… الرجل الذي لا يمكن للنظام أن يتحمّل خروجه

في النهاية، لا يُحتجز خليفة لأنه مذنب؛ فذنبه انتهى بحكم قضائي. يُحتجز لأنه كان جزءاً من نظام يعرف أسراره، وربما يعرف أكثر مما ينبغي عن رجال ما زالوا في السلطة.

إنه سجين «المعرفة»، وسجين «الصمت الإجباري»، وسجين نظام يخشى من ماضيه أكثر من خوفه من المستقبل.

ولذلك، فإن خروج خليفة من السجن ليس قضية قانونية، بل قضية وجودية بالنسبة لسلطة تبني شرعيتها على دفن فضائحها… وعلى منع أشباح الماضي من التجول في الشارع.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com