شبكات النفوذ والابتزاز الدبلوماسي في العلاقات الجزائرية–الفرنسية**

بوشعيب البازي

Screenshot

أثار التوقيف المؤقت للجزائري مهدي غزار من طرف الشرطة الفرنسية، مساء الثلاثاء 9 دجنبر، عاصفة سياسية وإعلامية غير مسبوقة في العلاقات الجزائرية–الفرنسية. فبدلاً من الاكتفاء بتفاعل دبلوماسي هادئ أو توضيحات قانونية روتينية، انخرطت الجزائر، رسمياً وإعلامياً، في تصعيد حاد ضد باريس، ما فتح الباب أمام تساؤلات جوهرية حول خلفيات هذا التوتر المفاجئ، وحقيقة موقع غزار داخل منظومة النفوذ الجزائرية خارج الحدود.

توقيف محدود… ورد فعل غير متناسب

رغم أن مهدي غزار أُطلق سراحه بعد ساعات قليلة من الاستماع إليه، فإن رد الفعل الجزائري اتسم بحدة لافتة. فقد شنت وسائل الإعلام العمومية وشبه الرسمية حملة واسعة استهدفت القضاء الفرنسي والأجهزة الأمنية، مع التركيز على خطاب “الاستهداف” و”التمييز”، وتقديم المعني بالأمر باعتباره “صحفياً” يتعرض للتضييق.

غير أن هذا التوصيف سرعان ما بدا قاصراً عن تفسير حجم الغضب الرسمي. فمصادر إعلامية فرنسية كشفت أن غزار ليس مجرد إعلامي، بل شخص مصنف أمنياً ضمن ملفات المراقبة، في سياق مرتبط بأنشطة نفوذ تتجاوز العمل الصحفي التقليدي.

من ملف أمني إلى ورقة ابتزاز دبلوماسي

المنعطف الأبرز في هذه القضية برز مع ما كشفه الصحفي الاستقصائي محمد سيفاوي، الذي تحدث عن محاولة “مقايضة سياسية” قادتها الجزائر على أعلى مستوى. ووفق هذه المعطيات، سعت السلطات الجزائرية إلى ربط الإفراج عن الصحفي الفرنسي كريستوف غليز، المعتقل بالجزائر منذ ماي 2024 والمحكوم بسبع سنوات سجناً، بإغلاق ملفات قضائية حساسة مفتوحة في فرنسا، على رأسها قضية محاولة اختطاف واغتيال المعارض الجزائري أمير بوخرص، المعروف بـ”أمير دي زاد”.

هذه المقاربة، التي وصفها متابعون بـ”ابتزاز دولة”، وضعت باريس أمام اختبار حقيقي لمبدأ استقلال القضاء، في ظل ضغوط سياسية وإعلامية غير مسبوقة.

غزار وقضية أمير دي زاد: خيوط متقاطعة

الربط بين مهدي غزار وملف أمير بوخرص تعزز بعد ما نشرته مجلة Le Point، التي تحدثت عن قرب غزار من دوائر القرار في الجزائر، وعن أدوار غير معلنة لعبها ضمن شبكة نفوذ تنشط فوق التراب الفرنسي. ووفق المجلة، فإن التحقيقات القضائية الفرنسية كشفت تورط دبلوماسيين ومسؤولين جزائريين في هذه القضية، التي بلغت مرحلة متقدمة من المتابعات القضائية، بما في ذلك إصدار مذكرات توقيف دولية.

هذا التطور يفسر، إلى حد كبير، حساسية توقيف غزار، ويفسر أيضاً التصعيد الجزائري الذي تلا الحادث، باعتباره محاولة لاحتواء تداعيات ملف قضائي ثقيل الكلفة سياسياً.

من خطاب التعبئة إلى الاشتباه في التحريض

زاد الجدل حول غزار تعقيداً مع تداول تسجيلات ومواقف سابقة له، دعا فيها أفراد الجالية الجزائرية في الخارج إلى ما سماه “الجهاد الرقمي” ضد معارضي النظام. هذه الخطابات، التي وُصفت بالتحريضية، دفعت عدداً من المعارضين إلى تقديم شكاوى لدى السلطات الفرنسية، وأسفرت عن توقيف ومحاكمة بعض المؤثرين المرتبطين بهذه الشبكات.

وبالنسبة للأجهزة الأمنية الفرنسية، فإن هذه المعطيات تعزز فرضية أن غزار كان يؤدي دوراً يتجاوز الإعلام، ليصل إلى التعبئة السياسية والتنسيق داخل شبكات نفوذ منظمة.

من رجل أعمال إلى وسيط سياسي

تكشف شهادات إعلاميين معارضين، من بينهم هشام عبود، مساراً لافتاً في حياة مهدي غزار، بدأ كرجل أعمال في باريس، قبل أن يتحول تدريجياً إلى فاعل سياسي وإعلامي مقرب من السلطة الجزائرية. ووفق مصادر إعلامية فرنسية، لعب غزار دوراً محورياً خلال الحملة الانتخابية للرئيس عبد المجيد تبون في فرنسا سنة 2024، ما عزز موقعه داخل الدائرة الرئاسية.

وتشير تقارير صحفية إلى أن التحاقه بقناة ALG24 News، الخاضعة لإشراف مباشر من الرئاسة، لم يكن سوى تتويج لمسار تقارب سياسي، تُرجم إلى حضور إعلامي هجومي يعكس الخطاب الرسمي للجزائر تجاه فرنسا والمغرب.

أزمة تتجاوز الأشخاص

ما جرى في 9 دجنبر لم يكن حادثاً معزولاً، بل حلقة ضمن مسار متوتر في العلاقات الجزائرية–الفرنسية، حيث تتقاطع ملفات القضاء، والنفوذ، وحرية التعبير، والسيادة القانونية. فالتصعيد الجزائري، في نظر مراقبين، يعكس خشية حقيقية من انكشاف شبكات نفوذ تعمل خارج الأطر الدبلوماسية التقليدية.

ومع اقتراب محاكمات مرتقبة في فرنسا مرتبطة بقضية أمير دي زاد، تبدو باريس مصممة على تحصين استقلال قضائها، فيما تجد الجزائر نفسها أمام معادلة صعبة: إما احترام منطق القانون، أو الاستمرار في سياسة الضغط التي قد تزيد من تعقيد الأزمة.

الأشهر المقبلة وحدها كفيلة بكشف ما إذا كانت هذه العاصفة ستظل مجرد أزمة عابرة… أم مقدمة لفضيحة دولة بأبعاد دولية.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com