في الثالث عشر من ديسمبر، وبينما كان سكان ضاحية بوندي الساحلية في سيدني يستعدون لإحياء أمسية عيد الحانوكا، اخترقت أصوات إطلاق النار أجواء الاحتفال، محوِّلة الفضاء العام إلى مسرح مفاجئ للفزع. غير أن اللحظة التي ستترسخ في الذاكرة الجماعية لم تكن لحظة العنف ذاتها، بل ما تلاها مباشرة: رجل أعزل يندفع نحو مصدر الخطر، ينتزع السلاح من يد المهاجم، ويُنهي التهديد بهدوء وحسم. في ثوانٍ قليلة، تحوّل هذا الرجل إلى رمز عالمي لبطولة تتجاوز الانتماءات والهويات، وتعيد تعريف معنى الفعل الإنساني في زمن الاستقطاب.
الرجل، أحمد الأحمد، ليس رجل أمن ولا صاحب تكوين قتالي. هو صاحب متجر فواكه، أب لعائلة، تصرّف بوصفه “إنسانًا” قبل أي تعريف آخر. دلالة هذا الفعل تكمن في بساطته المركّبة: شجاعة فطرية غير مؤدلجة، لا تبحث عن معنى سياسي أو ديني، بل تستجيب لواجب أخلاقي آني، في لحظة تهديد مباشر للحياة.
عقب الحادثة، انشغل الإعلام الأسترالي والدولي بسؤال الأصل والهوية. تقارير أولية وصفته بأنه “لبناني الأصل”، قبل أن يخرج أقاربه لتوضيح أنه سوري، من قرية النيرب في ريف حلب. الالتباس لم يكن استثنائيًا في سياق الجاليات العربية في أستراليا، حيث تتقاطع الأسماء والعائلات والهجرات، وغالبًا ما تُختزل الهويات المركبة في تصنيفات سريعة. غير أن المفارقة الأعمق تكمن في أن هذا الجدل، بحد ذاته، بدا ثانويًا أمام فعلٍ نجح في تعليق سؤال الهوية لصالح سؤال الإنسانية.
لا يمكن قراءة حادثة بوندي بمعزل عن سياقها الزمني الأوسع. ففي التوقيت ذاته تقريبًا، كانت غزة، على بعد آلاف الكيلومترات، تعيش يومًا آخر من العنف المتصاعد، تُسجَّل فيه أرقام جديدة للضحايا المدنيين، غالبيتهم من النساء والأطفال. هنا تكتسب المفارقة طابعًا تراجيديًا حادًا: مسلم ينقذ حياة يهود في فضاء مدني تعددي، بينما يُقتل مسلمون ومسيحيون فلسطينيون تحت قوة عسكرية لدولة تُعرّف نفسها بهوية يهودية، في سياق صراع وجودي مفتوح. هذا التناقض لا يعكس مجرد مصادفة زمنية، بل يسلّط الضوء على ازدواجية عميقة في فهم “الإنسانية” وتطبيقها؛ إنسانية تُمارَس في أستراليا كواجب فردي فوري، وتُعلَّق في الشرق الأوسط كرهينة لحسابات سياسية وجماعية معقّدة.
التدخل السريع لأحمد، وما تلاه من احتفاء رسمي وشعبي، يكشفان قدرة القيم المدنية المشتركة على تعطيل خطابات الإقصاء، ولو مؤقتًا. فالقصة لا تتعلق فقط بشجاعة فرد، بل بالفضاء الاجتماعي الذي جعل هذا الفعل ممكنًا ومُعترفًا به. المجتمع الأسترالي، رغم توتراته البنيوية، يوفر إطارًا قانونيًا ومؤسسيًا وقيميًا يسمح بتحويل “التعايش” من شعار إلى ممارسة يومية قابلة للتجسيد. في هذا السياق، تتحول بطولة أحمد إلى نموذج إبستمولوجي لفهم “الفضاء الاجتماعي” بوصفه حاضنة للفعل الأخلاقي.
الفيديو الذي وثّق الحادثة، وأظهر هدوء أحمد رغم إصابته، لم ينتشر كخبر عابر، بل كبيان بصري مضاد للتعصب. لقد طرح، بشكل ضمني، سؤالًا جوهريًا على المجتمعات المتعددة: ما الشروط التي تسمح بتحويل الإمكانية الأخلاقية إلى ممارسة جماعية؟ الإجابة تشير بوضوح إلى دور الفضاء العام الديمقراطي، وسيادة القانون، وثقافة المواطنة التي تفصل بين الهوية الخاصة والواجب العام.
في المقابل، يقدّم السياق الفلسطيني – الإسرائيلي مثالًا صارخًا على كيف يمكن للصراع الجيوسياسي أن “يستعمر” المجال الأخلاقي، ويحوّله إلى ساحة حرب إضافية. هنا، تُجزَّأ الإنسانية وتُوزَّع وفق منطق الانتماء، فتُقاس قيمة الحياة بالهوية الوطنية أو الدينية. تُدار المأساة عبر سرديات كبرى — أمنية، قومية، دينية — تبتلع المعاناة الفردية، وتحوّلها إلى أداة تعبئة أو إلى “أضرار جانبية” في أفضل الأحوال. في هذا السياق، لا تُرى الضحية بوصفها “أحمدًا” آخر، بل رقمًا في معادلة صفرية.
من هذا المنظور، تتجاوز بطولة أحمد بعدها الرمزي لتتحول إلى دعوة وجودية موجّهة للنخب الفكرية والقيادات المجتمعية في العالم العربي والإسلامي. الدعوة ليست إلى تمجيد الفعل الجسدي أو استنساخه، بل إلى استعادة الجرأة الأخلاقية والفكرية في مواجهة خطاب الكراهية السائد. وهذا يتطلب انتقالًا نوعيًا من “خطاب الضحية” المحصور في المظلومية، إلى “خطاب الفاعل الأخلاقي” القادر على نقد العنف، بما فيه العنف الذاتي، والدفاع عن كرامة الإنسان كقيمة مطلقة غير قابلة للتجزئة.
الدور الاستراتيجي هنا يقع على عاتق المؤسسات التربوية والإعلامية والمجتمع المدني. فبدلًا من إعادة إنتاج الاستقطاب، يمكن لهذه الفضاءات أن تضخّم قصص التضامن العابرة للهويات، وأن تفتح نقاشًا أخلاقيًا معمّقًا حول الصراعات، بعيدًا عن التبسيط والتحريض. البطولة اليوم ليست في ردّ الفعل الغاضب، بل في الشجاعة الفكرية لنزع الطابع “القدري” عن خطاب الكراهية، وعرضه بوصفه خيارًا سياسيًا وثقافيًا، لا مصيرًا محتومًا.
ختامًا، لا تمثل حادثة بوندي نهاية لزمن الكراهية، فهذه الأخيرة بنية اجتماعية وسياسية عميقة الجذور. لكنها تشكّل انزياحًا دالًا في الخطاب العالمي، كاشفةً هشاشة سرديات الكراهية حين تواجه فعل الإنسانية الخالص. إنها تذكير بأن التاريخ، رغم ثقله، لا يزال يتيح مساحات للتدخل الأخلاقي الحر. السؤال الحاسم ليس ما إذا كان أحمد الأحمد قد غيّر العالم، بل ما إذا كنا، كجماعات وسياسات، مستعدّين لبناء عالم يصبح فيه فعله قاعدة لا استثناء: عالم لا تُقاس فيه إنسانيتنا بانتصاراتنا العسكرية أو السياسية، بل بقدرتنا على رؤية “الآخر” — في غزة أو سيدني — كغاية في ذاته، لا كوسيلة في صراعنا.