في خطوة تعكس تحوّلاً واضحاً في المزاج السياسي الأوروبي، صادق الاتحاد الأوروبي خلال الأسابيع الأخيرة على حزمة من الإجراءات الأكثر تشدداً في سياسات الهجرة واللجوء، في محاولة لاحتواء تصاعد الضغوط الشعبوية وتراجع الثقة الشعبية في قدرة المؤسسات الأوروبية على ضبط الحدود وإدارة تدفقات المهاجرين.
القرار، الذي يأتي في سياق صعود اليمين المتطرف في عدد متزايد من الدول الأعضاء، يتضمن إنشاء ما يُعرف بـ«مراكز العودة» خارج حدود الاتحاد الأوروبي، مخصصة لطالبي اللجوء الذين تُرفض طلباتهم، إلى جانب تسريع إجراءات الترحيل وتشديد العقوبات على من يرفضون مغادرة أراضي التكتل.
مفارقة الأرقام والضغط السياسي
المفارقة الأساسية في هذا التحول تكمن في أن أعداد الدخول غير النظامي إلى الاتحاد الأوروبي سجلت انخفاضاً يناهز 20 في المئة خلال النصف الأول من عام 2025، وفق بيانات وكالة حرس الحدود الأوروبية «فرونتكس». غير أن هذا التراجع لم يكن كافياً لتهدئة المخاوف الشعبية، بل بدا أن ملف الهجرة تحوّل إلى أداة انتخابية فعّالة في يد التيارات الشعبوية، التي نجحت في فرض إيقاعها على الأجندة السياسية الأوروبية.
وفي هذا السياق، شدد مفوض الهجرة في الاتحاد الأوروبي، ماجنوس برونر، على ضرورة «استعادة شعور المواطنين بالسيطرة»، معتبراً أن تسريع إعادة طالبي اللجوء المرفوضين بات شرطاً أساسياً لاستعادة الثقة في سياسات الاتحاد. من جانبه، رأى وزير الهجرة الدنماركي راسموس ستوكلوند أن بقاء أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين داخل دول التكتل، رغم صدور قرارات بترحيلهم، يُضعف مصداقية النظام الحالي، مؤكداً أن القواعد الجديدة سترفع معدلات العودة القسرية.
«ميثاق الهجرة»: إطار قانوني مشدد
تندرج هذه الإجراءات ضمن «ميثاق الهجرة واللجوء» الذي أُقرّ العام الماضي، على أن يدخل حيّز التنفيذ في يونيو المقبل. ويهدف الميثاق إلى تحسين إدارة الحدود، وتسريع البت في طلبات اللجوء، وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء في ما يخص الترحيل وإعادة التوطين.
وتمنح القواعد الجديدة الدول الأعضاء صلاحيات واسعة، أبرزها إنشاء مراكز خارجية لمعالجة ملفات طالبي اللجوء المرفوضين، وفرض فترات منع أطول من دخول الاتحاد على من يرفضون الامتثال لقرارات الترحيل، إضافة إلى إمكانية نقلهم إلى دول ثالثة تُصنّف على أنها «آمنة».
وقد شملت قائمة «الدول الآمنة» الجديدة كلاً من كوسوفو وبنغلاديش وكولومبيا ومصر والهند وتونس، إلى جانب جميع الدول المرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، مع استثناء الدول التي تشهد نزاعات مسلحة أو تخضع لعقوبات أوروبية، مثل أوكرانيا. ويُعد التعديل الأبرز في هذا المفهوم هو التخلي عن شرط وجود رابط مباشر بين طالب اللجوء والدولة الثالثة، ما يمنح مرونة أكبر للترحيل، لكنه يثير في المقابل تساؤلات قانونية وحقوقية عميقة.
انتقادات حقوقية وتحديات التنفيذ
رغم الدعم الذي تحظى به هذه السياسات لدى بعض الحكومات، واجهت انتقادات حادة من منظمات حقوق الإنسان. فقد وصفت منظمة العفو الدولية مراكز العودة المقترحة بأنها «قاسية وغير قابلة للتطبيق»، محذّرة من أن نقل طالبي اللجوء إلى خارج الاتحاد سيُبقيهم في حالة من الغموض القانوني ويعرّضهم لمخاطر إنسانية أكبر.
وتذهب منظمات أخرى إلى أن الاتحاد الأوروبي، بدل الاستثمار في سياسات الحماية والاندماج، يختار حلولاً قصيرة المدى قد تزيد من هشاشة المهاجرين، دون معالجة الأسباب البنيوية للهجرة غير النظامية.
آلية تضامن مثيرة للانقسام
في موازاة ذلك، اعتمدت الدول الأعضاء «صندوق التضامن» لعام 2026، الذي يحدد حصص إعادة التوطين والمساهمات المالية لدعم الدول الأكثر تأثراً بتدفقات الهجرة، مع إعفاء دول مثل قبرص واليونان وإيطاليا وإسبانيا نظراً للضغط الكبير الذي تتحمله. وتتيح هذه الآلية للدول الاختيار بين استقبال طالبي لجوء، أو تقديم دعم مالي، أو مساهمة تشغيلية، بهدف توزيع الأعباء بشكل أكثر توازناً.
غير أن هذه الآلية اصطدمت برفض صريح من دول مثل المجر وسلوفاكيا والتشيك، التي استندت إلى سياساتها الداخلية الصارمة أو إلى التزاماتها تجاه اللاجئين الأوكرانيين، ما يعكس عمق الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي بشأن إدارة الهجرة.
بين السياسة والواقع
وتبرز التحديات التطبيقية بوضوح في تجارب سابقة، مثل مراكز العودة التي أنشأتها إيطاليا في ألبانيا، والتي بقيت، حتى الآن، شبه خالية نتيجة طعون قانونية أمام المحاكم الوطنية والأوروبية. كما أثار تعريف «الدول الثالثة الآمنة» جدلاً واسعاً حول مدى احترامها لمعايير حقوق الإنسان، ما يهدد مصداقية هذه السياسات من الناحية القانونية.
حتى داخل المعسكر الداعم للتشديد، ظهرت تحفظات؛ إذ شككت فرنسا في فعالية الإطار القانوني الجديد، بينما دفعت بولندا باتجاه توسيع قائمة الدول الآمنة لتخفيف الضغط عن الاتحاد.
ملف مفتوح على المجهول
في المحصلة، تعكس الحزمة الجديدة من سياسات الهجرة واللجوء تنامي النفوذ السياسي لليمين المتطرف، وقدرة الخطاب الشعبوي على إعادة توجيه القرار الأوروبي. فهي تمثل، من جهة، محاولة لاستعادة السيطرة وطمأنة الرأي العام، ومن جهة أخرى، تفتح الباب أمام إشكالات قانونية وإنسانية عميقة.
ويرى مراقبون أن تشديد السياسات قد يحقق مكاسب سياسية قصيرة المدى، لكنه يظل محفوفاً بتحديات تنفيذية وقانونية كبيرة، في ظل استمرار الخلافات بين الدول الأعضاء. وبين متطلبات الأمن والضغط الشعبي، والالتزامات الإنسانية والقانونية، يبقى ملف الهجرة أحد أكثر الملفات تعقيداً وحساسية داخل الاتحاد الأوروبي، ومرشحاً لإنتاج توترات جديدة في المستقبل القريب.