السياسة الخارجية الجزائرية بين منطق المواجهة وحتمية العزلة

بوشعيب البازي

قراءة تحليلية في حصيلة دبلوماسية مثقلة بالإخفاقات

تجد الجزائر نفسها اليوم في وضع دبلوماسي بالغ التعقيد، نتيجة تراكم خيارات خارجية اتسمت بالتصعيد والعداء أكثر مما اتسمت بالبراغماتية وحسن تقدير المصالح. فبعد سنوات من سياسات قائمة على منطق الاصطفاف والصدام، بدأت ملامح عزلة إقليمية ودولية تتكرس، انعكست في توتر العلاقات مع الجوار المباشر، وتراجع الدور الجزائري التقليدي كفاعل توازني ووسيط في أزمات المنطقة.

دبلوماسية الصدام بدل دبلوماسية المصالح

تعكس السياسة الخارجية الحالية تمسكاً شبه عقائدي بدعم حركات وجبهات انفصالية في محيط إقليمي هش، وعلى رأسها جبهة البوليساريو في الصحراء المغربية، إلى جانب انخراط سياسي وأمني ملتبس في ملفات الساحل الإفريقي وليبيا. هذا التوجه، الذي يُقدَّم داخلياً بوصفه دفاعاً عن “مبادئ ثابتة”، يجري عملياً على حساب المصالح العليا للدولة الجزائرية، ويضعها في مواجهة مباشرة مع محيطها الطبيعي وشركائها التقليديين.

النتيجة كانت سلسلة من القطيعات والأزمات الدبلوماسية: علاقات متوترة أو مقطوعة مع دول الجوار المغاربي، وأزمة ثقة عميقة مع دول الساحل مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وهي دول كانت الجزائر تُقدَّم لسنوات باعتبارها شريكاً أمنياً أساسياً ووسيطاً مقبولاً لديها. هذا التحول أفقد الجزائر تدريجياً رأسمالها الرمزي في المنطقة، وأضعف قدرتها على التأثير في مسارات الأزمات التي تمس أمنها القومي مباشرة.

مجلس الأمن… حضور بلا أثر

ورغم انتخاب الجزائر عضواً غير دائم في مجلس الأمن للفترة 2024–2025، وهو منصب يفترض أن يتيح لها هامشاً أوسع للتأثير الدبلوماسي، إلا أن الأداء المسجل حتى الآن يعكس محدودية هذا الحضور. فمحاولات إقحام الأجندة الانفصالية في ملفات إقليمية ودولية متعددة قوبلت، في الغالب، بالتحفظ أو الرفض من قبل شركاء دوليين، ما يؤكد أن هذا الخطاب لم يعد يحظى بالزخم أو القبول الذي كان يتمتع به في مراحل سابقة.

بل إن هذا الإصرار على توظيف المنابر الدولية لخدمة قضايا خلافية ضيقة، بدل التركيز على التحديات المشتركة كالأمن الإقليمي، الإرهاب، الهجرة غير النظامية أو التنمية، ساهم في تعزيز صورة الجزائر كطرف إشكالي أكثر منه شريكاً موثوقاً.

غياب الرؤية واستنزاف الموارد

المشكلة لا تكمن فقط في طبيعة القضايا التي تراهن عليها السياسة الخارجية، بل في غياب رؤية استراتيجية واضحة، سواء على المدى القريب أو المتوسط. فالنظام القائم يواصل الاستثمار السياسي والمالي في ملفات خاسرة، متجاهلاً التحولات الجيوسياسية العميقة التي تعرفها المنطقة والعالم، من إعادة تشكيل التحالفات إلى صعود مقاربات جديدة قائمة على الاقتصاد والتكامل الإقليمي.

وفي الداخل، يتزايد التناقض بين هذا الإنفاق الخارجي المكلف، وبين واقع اجتماعي واقتصادي مأزوم. فاستنزاف عائدات الثروات الباطنية في دعم مليشيات وحركات انفصالية خارج الحدود، يجري في وقت تعاني فيه قطاعات حيوية من نقص الاستثمار، وتتصاعد فيه مطالب اجتماعية مشروعة تتعلق بالتشغيل، والخدمات، والعدالة الاجتماعية. وهو ما يفاقم الإحباط الشعبي، ويعمّق الفجوة بين السلطة والمجتمع.

أي أفق للخروج من المأزق؟

تُظهر التجربة أن استمرار النهج الحالي لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة والتوتر، في منطقة لا تحتمل مزيداً من الاستقطاب. فاستعادة مكانة الجزائر الطبيعية كدولة محورية في شمال إفريقيا والساحل تمر، بالضرورة، عبر مراجعة جذرية للخيارات السياسية والدبلوماسية، تقوم على أولوية المصالح الوطنية، واحترام سيادة الدول، وتغليب منطق التعاون على منطق “زرع الفتن”.

إن التغيير في مقاربة القيادة السياسية والعسكرية للسياسة الخارجية لم يعد ترفاً، بل ضرورة استراتيجية. فبدون هذا التحول، ستظل الجزائر أسيرة سياسات رد الفعل والمواجهات العقيمة، بدل أن تكون دولة مستقرة، فاعلة، ومسالمة، قادرة على لعب دور إيجابي في محيطها الإقليمي والدولي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com