تونس بين الذكرى والوصاية: قراءة تحليلية في مشهد 17 دجنبر

بوشعيب البازي

Screenshot

بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لاندلاع الثورة التونسية، التي انطلقت شرارتها يوم 17 دجنبر 2010، عاشت العاصمة تونس، يوم الأربعاء 17 دجنبر الجاري، على وقع مشهد سياسي غير مسبوق. فقد توافد آلاف الجزائريين إلى شارع الحبيب بورقيبة للمشاركة في تظاهرة داعمة للرئيس قيس سعيّد، في خطوة أثارت جدلاً واسعاً واحتجاجاً شديداً من قبل قوى المعارضة التونسية، التي اعتبرت ذلك تدخلاً مباشراً في الشأن الداخلي للبلاد ودليلاً إضافياً على خضوع القرار التونسي لتأثير خارجي، وتحديداً للسلطات الجزائرية.

سياق داخلي محتقن

جاء هذا التطور في ظرف سياسي بالغ الحساسية. فخلال عطلة نهاية الأسبوع التي سبقت 17 دجنبر، شهدت عدة مدن تونسية، وفي مقدمتها العاصمة، مظاهرات حاشدة نظمتها قوى معارضة ومكونات من المجتمع المدني، للتنديد بما تصفه بـ«التصعيد السلطوي» لرئيس الجمهورية. وتتهم هذه القوى قيس سعيّد بإفراغ المؤسسات من مضمونها، وتهميش الحياة الحزبية، والزج بمعارضيه في السجون، مع تركيز السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية بين يديه.

أمام هذا الضغط الشعبي المتزايد، بدا أن السلطة تسعى إلى استباق تحركات جديدة للمعارضة في يوم رمزي بامتياز. فالذكرى الخامسة عشرة لإحراق الشاب محمد البوعزيزي لنفسه، وما تبعها من سقوط نظام زين العابدين بن علي في يناير 2011، لا تزال تمثل لحظة مؤسسة في الوعي الجمعي التونسي، وشارع الحبيب بورقيبة يظل رمزها الأبرز.

تعبئة غير مسبوقة ودعم خارجي

منذ الساعات الأولى ليوم 17 دجنبر، نُظمت تظاهرة لأنصار الرئيس في قلب العاصمة. غير أن محدودية الحضور التونسي دفعت، وفق معطيات متقاطعة وشهادات موثقة بمقاطع فيديو متداولة على شبكات التواصل الاجتماعي، إلى الاستعانة بحشود قدمت من الجزائر. فقد وصلت قوافل تضم عشرات الحافلات، قُدّر عددها بما لا يقل عن خمسين، تقل آلاف الأشخاص الذين قُدموا على أنهم مدنيون.

وتُظهر المقاطع المتداولة مشاركين يصرّحون صراحة بأنهم قدموا من الجزائر للمشاركة في تظاهرة دعم قيس سعيّد. كما رُفعت لافتات تهاجم المعارضين التونسيين وتتهمهم بـ«خيانة الوطن»، وهو ما اعتبرته المعارضة تجاوزاً خطيراً وخطاباً تحريضياً يمس بالسيادة الوطنية.

ردود فعل متباينة

سارعت قوى المعارضة التونسية إلى إدانة ما وصفته بـ«التدخل السافر» في الشأن الداخلي، معتبرة أن ما جرى لا يمكن فصله عن شبكة الدعم السياسي والاقتصادي التي توفرها الجزائر للرئيس التونسي منذ قرارات 25 يوليوز 2021. في المقابل، نفت وسائل إعلام جزائرية رسمية وشبه رسمية هذه الاتهامات، واعتبرت أن وجود مواطنين جزائريين بأعداد كبيرة في تونس أمر طبيعي، بحكم الروابط السياحية، مشيرة إلى استفادتهم من المخصصات السياحية السنوية.

غير أن هذا التبرير لم يقنع منتقدي السلطة في تونس، الذين رأوا في التوقيت، وطبيعة الشعارات، وتنظيم الحشود، مؤشرات على تعبئة سياسية مقصودة، لا علاقة لها بإحياء ذكرى الثورة أو بالسياحة.

مناورة إعلامية وحدودها

بفضل هذا الدعم الخارجي، نجح قيس سعيّد مؤقتاً في فرض مشهد إعلامي مغاير، ومنع تظاهر معارضيه في شارع الحبيب بورقيبة، الذي ظل مغلقاً في وجههم. غير أن هذه المناورة، في نظر محللين، لا تعدو أن تكون «جرعة أوكسجين» ظرفية لسلطة تعاني من تآكل شرعيتها الداخلية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتراجع غير مسبوق في مؤشرات الثقة الشعبية.

ويذهب بعض المراقبين إلى أن ما حدث يعكس نقل «خبرة» سياسية معروفة في المنطقة، تقوم على صناعة الحشود وإيهام الرأي العام بوجود دعم شعبي واسع. وهي ممارسات ارتبطت، في السياق الجزائري، بزيارات رسمية نادرة للرئيس عبد المجيد تبون إلى بعض الولايات، حيث جرى الحديث عن تعبئة واسعة لعناصر بلباس مدني لإضفاء طابع جماهيري مصطنع.

مفارقات لافتة

تزداد المفارقة حدة إذا ما قورن هذا المشهد بما يجري داخل الجزائر نفسها، حيث تُحظر التجمعات بشكل صارم، وتُصنف أي مظاهرات مستقلة على أنها تهديد للأمن أو للوحدة الوطنية. كما يلفت الانتباه أن الجزائر، التي عبّأت حشوداً لدعم رئيس دولة مجاورة، لم تشهد، قبل أيام فقط، أي احتفالات شعبية تُذكر بمناسبة الذكرى الخامسة والستين لمظاهرات دجنبر 1960، إحدى المحطات المفصلية في تاريخها الوطني.

تشابه الأزمات وتلاقي المصائر

بين تونس والجزائر، تبرز أوجه تشابه مقلقة، سلطتان تواجهان عزوفاً شعبياً واسعاً، تجلى في نسب مشاركة انتخابية هزيلة لم تتجاوز، وفق الأرقام الرسمية، نحو 8 في المائة في تونس و10 في المائة في الجزائر خلال آخر الاستحقاقات الرئاسية. وفي ظل هذا الرفض الصامت، يبدو أن بقاء قيس سعيّد في الحكم بات مرتبطاً، إلى حد بعيد، بدعم سياسي واقتصادي جزائري، يشمل مساعدات مالية وإمدادات من الغاز.

في هذا السياق، لم تعد تونس، في نظر منتقدي هذا المسار، مجرد شريك إقليمي للجزائر، بل تحولت إلى مساحة نفوذ تُدار فيها التوازنات وفق أجندات تتجاوز الحدود الوطنية. وهو وضع يطرح أسئلة عميقة حول مستقبل السيادة، والديمقراطية، ومعنى استحضار ذكرى ثورة قامت أساساً من أجل الكرامة والحرية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com