كأس أمم أفريقيا في المغرب: بطولة قارية بمنطق الدولة ورهان المكانة العالمية

عبد السلام العلكي

تنطلق، يوم غد الأحد، نهائيات كأس أمم أفريقيا لكرة القدم في المغرب، لتستمر إلى غاية 18 يناير 2026، في نسخة تُوصف سلفًا بأنها الأضخم والأكثر تنظيمًا في تاريخ البطولة القارية. الحدث، الذي يأتي بعد ثلاث سنوات فقط من الإنجاز التاريخي للمنتخب المغربي ببلوغه نصف نهائي كأس العالم 2022 في قطر، لا يُختزل في منافسة رياضية فحسب، بل يندرج ضمن مشروع وطني متكامل يعكس تحوّل كرة القدم إلى رافعة استراتيجية للتنمية، وصناعة للصورة، وأداة لتعزيز الحضور الدولي للمملكة.

وتستضيف المملكة 24 منتخبًا من مختلف أنحاء القارة الأفريقية، على امتداد تسعة ملاعب جديدة أو مجددة، موزعة على ست مدن كبرى، في مشهد تنظيمي يعكس حجم الجاهزية اللوجستية والتقنية والبشرية التي عبأها المغرب لإنجاح هذا الاستحقاق.

تنظيم غير مسبوق… وكأس أفريقيا بمنطق المونديال

منذ الإعلان عن المغرب بلدًا منظمًا لكأس أمم أفريقيا 2025، انطلقت أوراش واسعة لإعادة تأهيل الملاعب وتحديث البنيات التحتية المرتبطة بالنقل والإيواء والأمن والخدمات، في إطار رؤية استراتيجية تتقاطع بوضوح مع التحضيرات الجارية لاحتضان كأس العالم 2030، بالشراكة مع إسبانيا والبرتغال.

هذا التداخل جعل من البطولة القارية بمثابة مختبر عملي لتجريب نماذج تدبيرية متقدمة، شاركت فيها قطاعات حكومية متعددة، إلى جانب الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، ومؤسسات النقل والسياحة والأمن، ما أفرز نموذجًا تنظيميا متكاملا يخضع لتخطيط دقيق غير مسبوق في تاريخ المسابقة.

ولم يعد الحديث، في هذا السياق، عن مجرد تنظيم مباريات، بل عن إدارة حدث جماهيري ضخم بمنطق “سلسلة قيمة” تشمل التسويق، التذاكر، البث، الضيافة، والتنقل، في مقاربة حولت كأس أفريقيا إلى مشروع دولة متكامل الأبعاد.

زخم جماهيري وترويج عالمي

على المستوى الرياضي، تواكب هذه الجهود التنظيمية توقعات بارتفاع المستوى الفني للبطولة، في ظل مشاركة منتخبات وازنة تضم نخبة من اللاعبين المحترفين في كبرى الدوريات الأوروبية، ما يُنذر بنسخة عالية التنافسية من حيث الأداء والإيقاع.

ويجد المنتخب المغربي نفسه في قلب هذا المشهد كأحد أبرز المرشحين للتتويج، بحكم انسجام عناصره، وتراكم خبرتها الدولية، وتلاحمها مع عامل الأرض والجمهور. وقد عكس الإقبال غير المسبوق على مباريات “أسود الأطلس” هذا الزخم، حيث نفدت التذاكر في دقائق معدودة، فيما سُجلت عمليات شراء من أكثر من 100 دولة حول العالم، في مؤشر واضح على البعد العالمي للبطولة.

وعلى صعيد الترويج، اعتمد المغرب استراتيجية اتصال متعددة القنوات، شملت حملات رقمية منسقة بمشاركة منصات سياحية ومؤسسات اقتصادية كبرى، إلى جانب إطلاق علامة “المغرب أرض كرة القدم”، التي ربطت المنافسة بصورة بلد رسخ مكانته كفاعل رئيسي في المشهد الكروي الدولي.

كما عززت اتفاقيات البث مع شبكات دولية كبرى من حجم الانتشار الإعلامي المتوقع، حيث تقرر نقل عدد من المباريات عبر قنوات مفتوحة في أسواق أوروبية، إلى جانب الشركاء التقليديين في أفريقيا، ما يمنح النسخة المغربية بعدًا إعلاميًا غير مسبوق. ويكفي التذكير بأن الاتحاد الأفريقي لكرة القدم تلقى أكثر من 5400 طلب اعتماد صحافي، في رقم يعكس حجم الاهتمام العالمي بالحدث.

جاهزية لوجستية وأفضلية مناخية

على المستوى اللوجستي، شهدت المدن المستضيفة استثمارات مكثفة في مجال النقل، شملت تحسين الربط السككي بين المدن، وتخصيص رحلات إضافية أيام المباريات، وتعزيز الطاقة الاستيعابية للمطارات، إلى جانب تجهيز مسارات خاصة لاستقبال الوفود والجماهير.

أما قطاع الإيواء، فقد عرف ارتفاعًا مبكرًا في نسب الحجز، خصوصًا في مدن الرباط ومراكش وأكادير وفاس، مع تعبئة بدائل متعددة تشمل الفنادق والشقق الفندقية ومؤسسات الضيافة السياحية، استعدادًا لتدفق جماهيري يُتوقع أن يكون الأكبر في تاريخ البطولات الأفريقية.

كما جرى تعزيز المنظومة الأمنية عبر مركز عمليات موحد، يضمن تنسيقًا لحظيًا بين مختلف المتدخلين، ويؤمّن انسيابية تنقل الجماهير داخل الملاعب ومحيطها.

وتبرز الظروف المناخية كعامل إضافي لصالح النسخة المغربية، إذ تُقام البطولة خلال فصل بارد نسبيًا، ما يساعد اللاعبين القادمين من أوروبا على تقديم أداء متوازن، خلافًا لما عرفته النسخة الماضية في كوت ديفوار، حيث أثرت الحرارة والرطوبة المرتفعتان على الإيقاع البدني والفني للمباريات.

الرباط… قلب البطولة النابض

تتبوأ العاصمة الرباط موقع القلب التنظيمي للبطولة، حيث ستحتضن أربعة ملاعب من أصل تسعة، هي المركب الرياضي الأمير مولاي عبدالله، وملاعب مولاي الحسن، والملعب الأولمبي، وملعب البريد، بطاقة إجمالية تقارب 130 ألف مقعد. ومن بين 52 مباراة مبرمجة، ستقام 19 مباراة في الرباط، بما فيها مباراتا الافتتاح والنهائي.

وخلال دور المجموعات فقط، ستستضيف العاصمة 12 مباراة، من بينها مواجهات المنتخب المغربي أمام جزر القمر ومالي وزامبيا، ما يجعل المدينة على موعد مع سباق لوجستي وعاطفي مكثف، يكرسها عاصمة فعلية لكرة القدم الأفريقية طيلة شهر كامل.

بروفة المونديال ورهان المكانة العالمية

تأتي هذه النسخة من كأس أمم أفريقيا باعتبارها خطوة إضافية في مسار المغرب نحو ترسيخ مكانته العالمية في كرة القدم، وبروفة عملية لاستضافة كأس العالم 2030. وهي ثاني مرة فقط يحتضن فيها المغرب البطولة القارية، في وقت راكم فيه خبرة تنظيمية معتبرة، من خلال استضافة مباريات تصفيات مونديال 2026 لمنتخبات أفريقية، وتنظيم خمس نسخ متتالية من كأس العالم للسيدات تحت 17 سنة، فضلًا عن كأس أمم أفريقيا للسيدات.

ويُراهن المغرب، في أفق 2030، على ملعب الحسن الثاني المرتقب، الذي يُتوقع أن يصبح أكبر ملعب كرة قدم في العالم بسعة 115 ألف متفرج، ليكون مسرحًا لنهائي المونديال. ويأتي هذا المشروع ضمن أوسع برنامج لتطوير البنية التحتية الرياضية في أفريقيا، رافقته استثمارات ضخمة في المطارات، والقطارات فائقة السرعة، والقطاع السياحي.

وفي هذا السياق، قال فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، إن ما يحققه المغرب “ليس حلمًا، بل طموحات مشروعة”، معتبرًا أن الرياضة تشكل رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية.

أكثر من بطولة

بهذه المعطيات، تبدو كأس أمم أفريقيا في المغرب أكثر من مجرد بطولة كروية. إنها تعبير مكثف عن نموذج دولة اختارت الاستثمار في الرياضة كأداة للتنمية، ووسيلة لبناء الثقة، ومنصة لترسيخ حضورها الدولي. وبين رهانات التنظيم والتنافس والترويج، يبعث المغرب برسالة واضحة: كرة القدم لم تعد هامشًا في السياسات العمومية، بل صارت في صلب الرؤية الاستراتيجية لدولة تصنع مكانتها بثبات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com