تيك توك المغربي: حين يقود “اللايف” الشاحنة بدل العقل: تيك توك المغربي بين حرية حين يقود “اللايف” الشاحنة بدل العقل: تيك توك المغربي بين حرية التعبير وفوضى الترهيب الرقمة
بوشعيب البازي
في زمن المنصات الرقمية، لم يعد النقاش العمومي يحتاج إلى قاعة محاضرات ولا إلى عمود رأي رصين. يكفي “لايف” على تيك توك، وهاتف مرفوع بزاوية غير مدروسة، ليُستدعى كل شيء دفعة واحدة: الوطنية، البطولة، نظرية المؤامرة، وأحياناً… قاموس كامل من السبّ واللعن.
خلال الأسابيع الأخيرة، وجد الفضاء الرقمي المغربي نفسه أمام مشهد سريالي يصعب تصنيفه: سائق شاحنة مقيم بالولايات المتحدة، لا بصفته المهنية وحدها، بل بصفته “مفكراً استراتيجياً” بنسخة تيك توك، يوزّع الألقاب على نفسه، ويخوض معارك كلامية ضد أكاديميين ودكاترة، لا بمنطق الحجة، بل بمنطق الصوت الأعلى والشتيمة الأسرع. اسم يتكرر بإلحاح في كل بث مباشر، وكأنه علامة تجارية: حضور دائم، مضمون واحد، وضجيج لا ينقطع.
من حرية التعبير إلى “حرية الانفلات”
المفارقة أن هذا الخطاب لا يُقدَّم باعتباره رأياً شخصياً، بل باعتباره “حقيقة مطلقة”، ومن يعارضه يُدرج تلقائياً في خانة الأعداء. هكذا تتحول المنصة من فضاء للنقاش إلى ما يشبه محكمة شعبية، لا قاضٍ فيها سوى عدد المشاهدات، ولا قانون إلا منطق القذف والتشهير.
الأخطر أن الأمر لم يعد يقتصر على مشاحنات افتراضية. فحسب معطيات متداولة، تقدمت مواطنة مغربية بشكاية رسمية ضد أحد صانعي المحتوى المعروفين على المنصة، بعد تعرضها للتهديد والتشهير، في سياق ما تصفه بأنه حملة منظمة قادتها حسابات متعددة، تتقاطع في الخطاب والتوقيت والأسلوب. هنا، ينتقل النقاش من خانة “الترفيه الرديء” إلى مربع الاشتباه الجنائي.
“عصابة رقمية” أم فوضى عابرة؟
وصف ما يجري بـ“العصابة” قد يبدو قاسياً، لكنه يعكس شعوراً عاماً بأن الأمر لم يعد مجرد تصرفات فردية. نحن أمام شبكة من الحسابات، رجالاً ونساءً منهم من لا يعرف الفرق بين الكاف و القاف، يوحدهم خطاب واحد: العنف اللفظي، تصفية الحسابات، واستعراض “القوة” الرقمية ضد كل من يجرؤ على الاختلاف أو منافسة هذه الحسابات في عدد المتابعين.
اللافت أن جزءاً من هذا الخطاب يصدر من أشخاص يعيشون خارج المغرب، بعضهم بلا عمل قار، وبعضهم في وضعيات اجتماعية هشة، لكنهم على تيك توك يتحولون فجأة إلى أوصياء على الأخلاق، وحراس للهوية، وقضاة يوزعون صكوك الوطنية. تناقض صارخ بين واقع اجتماعي مرتبك وخطاب متعالٍ لا يخلو من العنف الرمزي.
حين يغيب المحتوى… يحضر الصراخ
لا يتعلق الأمر بالمستوى الدراسي أو المهني بقدر ما يتعلق بثقافة رقمية مختلة. فالمشكلة ليست في أن يقود شخص شاحنة أو أن يكون أكاديمياً، بل في تحويل المنصة إلى حلبة لإهانة المعرفة نفسها، وشيطنة كل صوت عقلاني، لصالح خطاب يقوم على الاستعراض، والادعاء، وتغذية الغرائز الجماعية.
في هذا السياق، تصبح الشتيمة بديلاً عن الفكرة، والتهديد بديلاً عن النقاش، وعدد “اللايكات” معياراً للحقيقة. وهو منطق، إن تُرك دون ردع، لا يسيء فقط للأفراد المستهدفين، بل يضرب صورة النقاش العمومي المغربي في العمق.
مسؤولية القانون قبل أن تصبح الفوضى قاعدة
ما يحدث على تيك توك المغربي اليوم يطرح سؤالاً واضحاً: أين تقف حرية التعبير، وأين تبدأ المسؤولية الجنائية؟ حين تتحول المنصات إلى أدوات ترهيب، وحين يُستعمل البث المباشر للتشهير والتهديد، يصبح تدخل الشرطة الإلكترونية والنيابة العامة ليس ترفاً، بل ضرورة.
تفعيل الشكايات الموضوعة، والتحقيق الجدي في ما إذا كانت هناك أفعال منظمة تمس بالأشخاص وبالأمن الرقمي، هو الحد الأدنى لحماية الفضاء العام الافتراضي. فترك الأمور على حالها يعني ترسيخ قاعدة خطيرة: من يصرخ أكثر، ينتصر أكثر.
خلاصة المشهد
تيك توك، كغيره من المنصات، أداة محايدة. لكنه في المغرب يعيش لحظة اختبار حقيقية: إما أن يبقى فضاءً للتعبير، ولو الفوضوي، أو أن يتحول إلى مسرح دائم للانفلات اللفظي وتصفية الحسابات. وبين هذا وذاك، يبقى الرهان على دولة القانون، وعلى وعي جماعي يدرك أن “العظمة” الحقيقية لا تُقاس بعدد المتابعين، بل بقدرة الخطاب على احترام العقل والإنسان.