لم يعد النقاش حول حياد الإعلام مطروحاً بنفس المفاهيم الكلاسيكية عندما يتعلق الأمر بالقضايا السيادية. هذا ما خلصت إليه أشغال الدورة الثالثة من ملتقى العيون للصحافة بشمال إفريقيا والشرق الأوسط، التي تحتضنها مدينة العيون، كبرى حواضر الأقاليم الجنوبية، في سياق إقليمي ودولي تتقاطع فيه المعارك الإعلامية مع رهانات الجغرافيا السياسية والمصالح الاستراتيجية.
الملتقى، الذي انطلق يوم 24 دجنبر ويتواصل إلى غاية 27 منه، ينظمه نادي الصحراء للصحافة والتواصل تحت شعار: «الصحافة في خدمة القضية الوطنية.. رؤية مشتركة»، بمشاركة صحفيين وخبراء وأكاديميين من العالم العربي وإفريقيا وأوروبا، إلى جانب إعلاميين مغاربة، في محاولة لتفكيك السرديات المتصارعة حول قضية الصحراء المغربية وإعادة مساءلة دور الإعلام في زمن الاستقطاب.
الإعلام والسيادة: حدود الحياد
في هذا السياق، شدد عبد الله البقالي، نائب رئيس اتحاد الصحافيين العرب ورئيس النقابة الوطنية للصحافة المغربية، على أن مفهوم الحياد الإعلامي يفقد معناه عندما تمس القضايا المصيرية للدولة. وقال إن “لا وجود لإعلام محايد حين يتعلق الأمر بالمصالح العليا للوطن”، معتبراً أن الإعلام الوطني يشكل جزءاً عضوياً من منظومة الدفاع عن السيادة، إلى جانب الدبلوماسية والمؤسسات الرسمية.
وأوضح البقالي أن المغرب يمر بمرحلة تحول استراتيجي، تجعله قوة إقليمية صاعدة اقتصادياً وصناعياً وجيو-استراتيجياً، وهو ما يضعه في مواجهة مباشرة مع قوى إقليمية ودولية لا تنظر بعين الرضا إلى هذا الصعود. وضمن هذا السياق، يندرج النزاع المفتعل حول الصحراء، ليس كملف منفصل، بل كأداة ضغط ضمن صراع أوسع على النفوذ والمصالح.
من مواجهة الدعاية إلى بناء السردية
واعتبر المتحدث أن الإعلام المغربي لعب أدواراً محورية خلال السنوات الماضية، سواء في التعريف بعدالة القضية الوطنية، أو في مواجهة الدعاية المعادية والأخبار الزائفة التي حاولت افتعال الوقائع وتوجيه الرأي العام. كما ساهم، بحسبه، في تعزيز الانتماء الوطني وفتح فضاءات للنقاش العمومي المسؤول.
غير أن هذه الأدوار، يضيف البقالي، تظل رهينة بقدرة الإعلام على تطوير أدواته المهنية، والانتقال من منطق رد الفعل إلى منطق المبادرة، بما يضمن الدفاع عن المصالح العليا للمملكة والحفاظ على وحدتها الترابية ومكانتها الإقليمية والدولية.
المهنية كشريك في البناء الديمقراطي
من جهته، دعا الإعلامي أنس مزور إلى تعزيز المهنية والالتزام بالموضوعية في تناول القضايا الوطنية، معتبراً أن الدفاع عن السيادة لا يتناقض مع المعايير الصحفية، بل يمر عبرها. وأكد أن الإعلام الوطني مطالب بأن يكون شريكاً فاعلاً في البناء الديمقراطي، ومواكباً للإصلاحات الكبرى والمشاريع الاستراتيجية التي أطلقها المغرب خلال العقدين الأخيرين.
العيون… نموذج تنموي ورسالة سياسية
أما عبد الله جداد، رئيس نادي الصحراء للصحافة والتواصل، فأبرز أن احتضان العيون لهذا الملتقى ليس اختياراً تقنياً، بل يحمل دلالات سياسية وتنموية واضحة. فالمدينة، كما باقي الأقاليم الجنوبية، تمثل واجهة للنموذج التنموي المتقدم الذي أطلقه المغرب، وقاطرة للاندماج الإقليمي والقاري.
وينعقد الملتقى في ظل تقدم دبلوماسي مغربي لافت في ملف الصحراء، تجسده الدينامية المتواصلة لفتح القنصليات في العيون والداخلة، والدعم الدولي المتزايد لمخطط الحكم الذاتي باعتباره حلاً واقعياً وذا مصداقية، إلى جانب استثمارات كبرى في البنية التحتية والتنمية المستدامة.
زخم دولي وتحولات مؤسساتية
هذا الزخم تُوّج باعتماد مجلس الأمن الدولي، في 31 أكتوبر 2025، القرار رقم 2797، الذي وصف مبادرة الحكم الذاتي المغربية بأنها “أساس جاد وذو مصداقية” لحل النزاع، في إشارة واضحة إلى التحول المتدرج في مقاربة المنتظم الدولي لهذا الملف.
وفي هذا الإطار، أكد إبراهيم بلالي اسويح، عضو المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، أن المرحلة المقبلة تفرض تحيين المقترح المغربي بما ينسجم مع التحولات المؤسساتية والتنموية التي عرفها المغرب، خاصة في ما يتعلق بالجهوية المتقدمة والنموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية. وأوضح أن الصيغة المحينة ستراعي ثلاث ركائز أساسية: التسوية التوافقية، العلاقة بين المركز والجهة، ومسار التفاوض وآليات التنفيذ.
الإعلام كرافعة استراتيجية
هكذا، لا يقدم ملتقى العيون نفسه كموعد مهني عابر، بل كمنصة لإعادة التفكير في وظيفة الإعلام داخل معادلة السيادة والتنمية. ففي زمن الحروب الناعمة، لم تعد المعركة تُخاض فقط في أروقة الأمم المتحدة، بل أيضاً في غرف الأخبار، وعلى شاشات الهواتف، حيث تُبنى القناعات… أو تُهدم.