دبلوماسية الصوت العالي… الجزائر تغادر مجلس الأمن بلا أثر يُذكر

بوشعيب البازي

Screenshot

تغادر الجزائر مجلس الأمن الدولي كما دخلته: بكثير من الضجيج، وقليل من الأثر. سنتان كاملتان من العضوية غير الدائمة انتهتا دون أن تترك الدبلوماسية الجزائرية وراءها سوى أرشيف خطابات حماسية، وبيانات مصقولة لغوياً، وحصيلة عملية يصعب العثور عليها حتى بعد عدسة مكبّرة.

منذ لحظة انتخابها، قدّمت السلطة الجزائرية مقعد مجلس الأمن بوصفه “عودة قوية” إلى المسرح الدولي، و”استعادة لمكانة دبلوماسية تاريخية”. غير أن الواقع، داخل أروقة نيويورك، كان أقل شاعرية بكثير: حضور منتظم في الميكروفون، غياب شبه تام في صناعة القرار.

ففي الملفات الثقيلة التي تُقاس بها أوزان الدول داخل المجلس – من الأزمات الإقليمية إلى التوازنات الكبرى – لم تُسجَّل للجزائر مبادرات نوعية، ولا أدوار وساطة، ولا بصمات في القرارات المفصلية. وحدها فلسطين حضرت بقوة… في الخطب، لا في النتائج.

سياسة البيانات بدل سياسة التأثير

اللافت في الأداء الجزائري، أنه اختار طريق “الدبلوماسية الخطابية”: مواقف مبدئية عالية السقف، مصحوبة بقدرة محدودة على تحويلها إلى مكاسب سياسية أو قرارات مؤثرة. وفي مجلس الأمن، حيث لا يكفي أن تكون على حق، بل يجب أن تكون قادراً على بناء تحالفات، بدت الجزائر معزولة داخل خطابها، أكثر منها فاعلاً داخل التوازنات.

ومع اقتراب نهاية العهدة، كان السؤال الطبيعي: ماذا بقي؟

الجواب جاء… من الإعلام الرسمي.

صناعة إنجاز من عدم

بدلاً من تقييم هادئ للحصيلة، اشتغلت الماكينة الإعلامية الجزائرية على مهمة أكثر إلحاحاً: تحويل الخروج الصامت إلى “تتويج”. فجأة، تحوّل السفير عمار بن جامع إلى “دبلوماسي العام 2025”، وتحوّل خبر إعلامي عادي إلى ما يشبه وسام شرف أممي.

التفصيل الصغير – الذي تم تجاهله بعناية – أن الأمر لا يتعلق بجائزة صادرة عن الأمم المتحدة، ولا باعتراف مؤسساتي رسمي، بل بمجرد إدراج اسم ضمن قائمة تحريرية لمنصة إعلامية مستقلة تُعنى بأخبار المنظمة. منصة محترمة، نعم، لكنها لا توزّع أوسمة دبلوماسية ولا تصدر ألقاباً أممية.

ومع ذلك، عناوين من نوع: “انتخاب دبلوماسي الجزائر لسنة 2025 في الأمم المتحدة” انتشرت كالنار في الهشيم، في تمرين إعلامي كلاسيكي على تضخيم العادي، وتقديس الشخص، وتعويض غياب الإنجاز بالاحتفاء بالرمز.

نظرية المؤامرة… الحل الجاهز

كل من تجرأ على مساءلة هذه الرواية، جرى تصنيفه فوراً في خانة “الأعداء”. صحف جزائرية اختارت الطريق الأسهل: تحميل المسؤولية لـ”الصهاينة” و”ذباب المخزن”، وكأن السياسة الدولية تُدار بحسابات التعليقات الإلكترونية، لا بموازين القوة والتحالفات.

أما الحديث عن “احترام دولي واسع” حصدته الجزائر، فقد بقي دون أمثلة ملموسة، ودون قرارات شاهدة، ودون نتائج يمكن قياسها خارج صفحات الجرائد.

خطاب وداع… بنبرة دفاعية

في كلمته الختامية، قال السفير بن جامع إن الجزائر “غادرت مجلس الأمن وهي تشعر بأنها قامت بواجبها”. عبارة تصلح كخاتمة إدارية، أكثر منها كشهادة نجاح سياسي. فالواجب، في الدبلوماسية، لا يُقاس بالنية، بل بالأثر.

وزاد من حرج الخاتمة تصويت الجزائر لصالح القرار 2803 المتعلق بغزة، بما يتضمنه من إنشاء قوة دولية ونزع سلاح وتدمير بنى تحتية، في تناقض صارخ مع الخطاب الذي طالما استُهلك داخلياً حول “الثوابت” و”المواقف غير القابلة للمساومة”. تصويت كشف، بلا رتوش، المسافة بين الشعارات المرفوعة للاستهلاك المحلي، والخيارات الواقعية داخل غرف مجلس الأمن.

بين الأسطورة والحقيقة

تغادر الجزائر مجلس الأمن، ويغادر معها وهم “العهدة التاريخية”. ما تبقى هو درس دبلوماسي قديم يتكرر: السياسة الخارجية لا تُدار بالشعارات، ولا تُقاس بعدد الخطب، ولا تُنقذها عناوين متفائلة في نهاية السنة.

في نيويورك، لا يُسجَّل الحضور بالصوت العالي، بل بالقدرة على التأثير.

وهنا بالضبط… كانت الحصيلة الجزائرية أقرب إلى الصفر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com