ستة أشهر حبسا… والقضاء يُذكّر السياسة بحدود الكلام

حنان الفاتحي

Screenshot

أحياناً، لا يحتاج القضاء إلى خطابات رنّانة ولا إلى شعارات إصلاحية طويلة كي يبعث برسالة واضحة. يكفيه حكمٌ من ستة أشهر حبسا نافذا ليقول، بلهجة هادئة ولكن حاسمة: الكلام في السياسة ليس بلا ثمن، والميكروفون ليس رخصة لانتهاك الكرامة.

هذا بالضبط ما انتهت إليه الغرفة الجنحية بالمحكمة الابتدائية بتارجيست، وهي تدين النائب البرلماني والقيادي في حزب الاستقلال، نور الدين مضيان، في ملف التشهير بزميلته الحزبية رفيعة المنصوري، في واحدة من القضايا التي خرجت من كواليس التنظيم الحزبي إلى فضاء القضاء، بعدما ضاق الصمت بما يُقال همساً ويُسرّب جهراً.

الحكم، في شكله، يبدو عادياً: ستة أشهر حبسا نافذا، غرامة مالية، وتعويضات مدنية معتبرة. لكنه، في دلالته، أبعد من مجرد أرقام. إنه لحظة فاصلة بين زمنٍ كان فيه “العنف الرمزي” داخل الأحزاب يُعتبر شأناً داخلياً، وزمنٍ صار فيه خاضعاً لميزان القانون، لا لميزان العلاقات.

القضية، كما يعرف المتابعون، لم تبدأ بنص قانوني ولا بشكاية جافة، بل بتسجيل صوتي مسرّب، تحوّل في دقائق إلى مادة خام للجدل السياسي، وأيقونة جديدة لِما يُسمّى اليوم بـ“الفضائح الرقمية”. تسجيلٌ لم يكن بحاجة إلى كثير من التأويل حتى يُصنّف في خانة المسّ بالحياة الخاصة والتشهير، لا في خانة “النقد السياسي” الذي يُستعمل عادة كمظلّة واقية لكل الانزلاقات.

هنا، لم يتعامل القضاء مع الواقعة بوصفها خصومة حزبية عابرة، بل كملف يجمع بين التشهير، والتهديد، والعنف المبني على النوع، وهي ثلاثية لم تعد تُقرأ، قانونياً، على أنها “انفعال لحظي” أو “زلة لسان”، بل باعتبارها أفعالاً مكتملة الأركان.

واللافت في هذا الملف، ليس فقط الإدانة الجنحية، بل قبول الدعوى المدنية والحكم بتعويضات مالية مهمة لفائدة رفيعة المنصوري ومريم الوزاني، في إشارة واضحة إلى أن الضرر المعنوي لم يعد تفصيلاً ثانوياً في العدالة الجنائية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالتشهير واستباحة الخصوصية عبر الوسائط الرقمية.

تصريحات هيئة الدفاع ذهبت أبعد من منطق الحكم، حين اعتبرت أن القضية “تفضح طبيعة العنف السياسي الذي تتعرض له النساء داخل الفضاء الحزبي”، وهو توصيف لا يبدو مبالغاً فيه، إذا ما استحضرنا أن المعركة لم تكن حول فكرة أو برنامج أو موقف سياسي، بل حول شخص، وحياة خاصة، وحدود لا ينبغي للسياسة أن تطأها.

في العمق، لا يُحرج هذا الحكم شخصاً بعينه فقط، بل يضع حزب “الميزان” – رمز الاستقامة والانضباط – أمام مرآة غير مريحة. مرآة تسأل: كيف تحوّل الاختلاف الداخلي إلى تسجيلات مسرّبة؟ وكيف صار الصراع السياسي، في بعض زواياه، أقرب إلى تصفية رمزية منه إلى تنافس ديمقراطي؟

القضاء قال كلمته. وبقيت كلمة السياسة.

هل ستفهم الرسالة؟ أم ستكتفي، كعادتها، باعتبار ما وقع “حادثاً معزولاً” في طريق طويل من الأعذار الجاهزة؟

في انتظار الاستئناف، شيء واحد يبدو مؤكداً: في مغرب اليوم، لم يعد التشهير مجرد “ضجيج جانبي” في لعبة السياسة، بل مخاطرة قانونية حقيقية… حتى وإن كان صاحبها نائباً برلمانياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com