في مشهد غير مسبوق منذ عقود، يشهد المغرب تحولات قضائية عميقة تستهدف الطبقة السياسية المحلية والإقليمية، بما في ذلك وجوه بارزة من البرلمانيين ورؤساء الجماعات والمنتخبين. أسماء من العيار الثقيل أصبحت بين يدي القضاء، وأخرى تنتظر دورها في طابور طويل من الاستدعاءات، كأنها حفلة تطهير سياسي ممنهج… أو فلنقل، تصفية ما قبل “الولادة الديمقراطية” الموعودة في انتخابات 2026.
فمن محمد بودريقة رئيس الرجاء البيضاوي السابق والبرلماني المعتمد، إلى سعيد الناصري، القيادي الانتخابي البارز في الدار البيضاء، وصولاً إلى عبد النبي البعيوي، الرجل القوي في الشرق، ومحمد مبديع، الوزير السابق ورئيس جماعة الفقيه بنصالح، ورشيد الفايق، برلماني فاس الذي هز الرأي العام بملفات فساد ثقيلة… كل هؤلاء تمت إحالتهم على القضاء أو أدينوا فعلاً، في إطار سلسلة متسارعة من التحقيقات والمتابعات والمحاكمات، طالت أيضاً أزيد من عشرين برلمانياً جُردوا من صفتهم، فيما تُلاحق العدالة أكثر من 200 منتخب ورئيس جماعة.
هل هي حملة تطهير؟ أم تمهيد لتجديد النخب؟
السؤال الكبير الذي يتردد في الشارع المغربي هو: هل نحن أمام حملة تطهير شاملة؟ أم أن الدولة بصدد تنفيذ خيار استراتيجي لإعادة هيكلة المشهد السياسي قبل 2026؟ ما يجري يتجاوز الحسابات القضائية أو حتى إرادة تفكيك شبكات الفساد المحلي، ليطرح إشكالية أعمق تتعلق بإعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وبين الدولة والنخب الوسيطة.
منذ خطاب العرش لسنة 2017، حين أطلق الملك محمد السادس رسائل قوية ضد “تردي النخب” و”عجز المنتخبين عن خدمة المواطنين”، بدأت تتبلور دينامية سياسية مختلفة، محورها الوضوح في تحميل المسؤولية وربطها بالمحاسبة. لكن الوتيرة بقيت بطيئة. أما الآن، فقد بلغ التسونامي حدّاً يطرح علامات استفهام كثيرة حول التوقيت، والأهداف، والمآلات.
و يعتقد الكاتب الصحفي بوشعيب البازي أن المغرب ” يقف على حافة تحول مفصلي. لكن لا يمكننا الحديث عن دولة المؤسسات إذا استمرت الظواهر ذاتها في إعادة إنتاج نفسها بعد كل موسم انتخابي. لا نحتاج فقط إلى تطهير الفاسدين، بل إلى تجفيف منابع الفساد نفسها، قانون انتخابي عادل، تمويل شفاف للأحزاب، إعلام حرّ، وتكوين مستمر للنخب المحلية”.
و يضيف البازي أن ” الدولة المغربية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تجعل من هذه الحملة القضائية منطلقاً حقيقياً لبناء شرعية سياسية جديدة تقوم على الكفاءة والنزاهة، وإما أن تكرر نفس اللعبة القديمة تحت مسميات جديدة، فالانتخابات المقبلة لن تكون اختباراً للأحزاب فقط، بل اختباراً للدولة ذاتها: هل ستجرؤ على القطيعة مع الريع السياسي، أم ستعيد تدويره؟”
رسائل داخلية وخارجية في آن واحد
هذه الحملة، بما تحمله من صرامة، ترسل رسائل متعددة:
- رسالة داخلية للنخب: منطق “اللا عقاب” انتهى. ومن اعتقد أن الولاء الحزبي أو القرب من السلطة يوفران الحصانة الأبدية، فقد خانته البوصلة.
- رسالة للشعب: هناك إرادة سياسية فعلية لضخ دماء جديدة ومحاربة الفساد البنيوي.
- رسالة للخارج: المغرب ليس استثناء في العالم العربي فقط من حيث الاستقرار، بل أيضاً من حيث ربط المسؤولية بالمحاسبة في إطار مؤسساتي.
لكن، هل هذه الدينامية كافية لإقناع المواطنين؟ هل سيتحول الحراك القضائي إلى ورش سياسي عميق يعيد بناء الثقة بين الدولة والمجتمع؟ أم أن الملف سيُطوى، كما طويت قبله ملفات كثيرة؟ هنا، يبدأ الشك المشروع.
التحليل بين العدالة الانتقائية والعدالة البنيوية
لا بد من الاعتراف، العدالة لا تُمارس في الفراغ. حين تتحرك السلطة القضائية بهذا الشكل المكثف، فإنها تعكس بالضرورة إرادة سياسية. لكن هل هذه الإرادة تسعى فقط إلى “التطهير الانتخابي” قبل 2026؟ أم أن الدولة قررت أخيراً خوض معركة طويلة ضد تكلّس النخب الريعية والانتخابية؟
ما يقلق البعض هو أن الكثير من الأسماء المعنية بالتحقيق أو المتابعة، سبق أن حصلت على تزكيات حزبية من أعلى المستويات، ومرت عبر بوابة وزارة الداخلية أو الأجهزة الترابية. وهذا يطرح تساؤلاً: هل من مراجعة ذاتية في العمق، أم مجرد تصفية حسابات سياسية بين أجنحة متصارعة داخل الحقل الانتخابي؟