لا شيء يُخيف النظام الجزائري أكثر من الأرشيفات حين تُفتح، خصوصاً تلك التي كتبتها أيادٍ فرنسية تعرف جيدا من صنع البوليساريو، ومن أشعل فتيل الأزمة، ومن كان مستعدا لإطفائها قبل أن يستولي العسكر على كل مفاتيح القرار.
على خلاف الرواية الرسمية التي بنتها الجزائر حجرا على حجر، والتي تُقدَّم منذ عقود كـ«ثوابت تاريخية»، يكشف الأرشيف الدبلوماسي الفرنسي عن جزائرٍ مترددة، مشوشة، بل منقسمة على نفسها بخصوص دعم جبهة البوليساريو. لقد أرادت الجزائر أن تظهر بمظهر الدولة الحاضنة لمبادئ التحرر، لكنها كانت تخفي في جيبها خريطة جيوسياسية للهيمنة الإقليمية. من هنا كانت صناعة البوليساريو، لا كحركة شعبية، بل كأداة تم تشكيلها وتوجيهها من قِبَل أجهزة الدولة.
الانقسام داخل الجزائر: أصوات من الداخل قالت “لا”
من مذكرات السفارة الفرنسية في الجزائر، نكتشف أن الدعم الجزائري للبوليساريو لم يكن محل إجماع. فحتى داخل السلطة، ظهرت أصوات سياسية وقيادات عسكرية ترفض الزج بالبلاد في صراع إقليمي محفوف بالمخاطر. مذكرة 26 مارس 1976 التي تُبرز نداء أربع شخصيات جزائرية معارضة، وتحفظ الجيش على دعم الجبهة الانفصالية، تكشف أن المغرب لم يكن يواجه دولة متماسكة، بل مجموعة مصالح داخل نظام منقسم.
كان واضحا في الرباط أن هناك شقوقا تتوسع في جدار السلطة الجزائرية. تحركات شخصيات من حجم محمد بوضياف وبجاوي والسحيمي، ومعارضة بعض ضباط الجيش الوطني الشعبي، لم تكن سوى إشارات مبكرة على هشاشة هذا المشروع الانفصالي من الداخل.
باريس توثق: “الجزائر صنعت البوليساريو من الصفر”
الأكثر صراحة جاءت من الوثائق الفرنسية: «الجزائر صنعت البوليساريو من لا شيء». بهذه العبارة الدقيقة، وصفت مذكرة دبلوماسية تعود لفبراير 1978 الدعم غير المشروط الذي وفرته الجزائر للحركة. الدعم لم يكن فقط لوجستيا وعسكريا، بل سياسيا، إعلاميا، ودبلوماسيا. حتى الاجتماعات الأوروبية بشأن القضية، كما نقرأ في برقية السفير غي دو كومين، كانت تُنصح بأن تُعقد تحت غطاء من السرية القصوى، بسبب التطفل النشط لجبهة تُنفذ حرفيا ما تمليه عليها الجزائر.
بومدين.. بين المرض والرغبة في التسوية
في أواخر أيامه، كان بومدين منهكا جسديا وسياسيا. وقد كشفت أرشيفات لا كورنوف أنه قبل، على مضض، البحث عن تسوية “مشرفة” مع المغرب، ولو بتنازلات. لقد وافق على وساطة فرنسية عبر شخصيات مثل كوف دو مورفيل ومنديس فرانس. لكن هل كانت تلك رغبة حقيقية في الحل، أم محاولة للهروب من مأزق صنعه بنفسه؟
ما يبدو مؤكدا هو أن بومدين، الذي أسس عقيدة العداء للمغرب، بدأ يُدرك أن اللعبة قد تنقلب عليه. غير أن الدولة التي أنشأها على مقاسه، كانت قد أصبحت أكبر منه، تقودها من خلف الستار نواة صلبة من الجنرالات.
الشاذلي بن جديد.. الرئيس الذي فكّر في “الانسحاب”
بعد بومدين، جاء الشاذلي بن جديد برؤية مختلفة. أقل إيديولوجية، وأكثر براغماتية. وقد سجلت الأرشيفات أنه لمح، بشكل دبلوماسي، إلى أن الجزائر قد تقبل بحل يُبقي الصحراء ضمن السيادة المغربية، إذا قبلت بذلك البوليساريو. طبعا، الجميع كان يعلم أن الجبهة لا تتحرك إلا بإذن من الجزائر، ما جعل من هذا التصريح تحولا غير مسبوق.
لكن الأمل في تحوّل جذري سرعان ما تلاشى. فقد تَصدّى الجنرالات لمبادرات الشاذلي، وفرضوا استمرارية الخط المتشدد. السلطة الحقيقية لم تكن في قصر المرادية، بل في الثكنات. والشاذلي، في نظر هؤلاء، مجرد واجهة مدنية.
مسرح اسمه “الصحراء”.. والمعركة الحقيقية في الكواليس
ما تكشفه هذه الأرشيفات أن الصحراء لم تكن يوما لبّ الصراع، بل مجرد واجهة لصراع أعمق بين أجنحة الحكم في الجزائر. إنها مسرحية طويلة ومكلفة، لكن خشبتها ليست في تندوف أو العيون، بل في دهاليز وزارة الدفاع الجزائرية ومكاتب الاستخبارات.
منذ السبعينيات، لم تكن جبهة البوليساريو سوى أداة توظيف، تم تنشيطها كلما دعت الحاجة، وتجميدها عند الضرورة. واليوم، بعد مرور أربعة عقود، لم يعد هناك وهم كبير: البوليساريو ليست حركة استقلالية، بل ذراع وظيفي في حسابات جزائرية بحتة.
يخبرنا الأرشيف بما لا تقوله البيانات الرسمية: أن الجزائر حاولت الانسحاب، فَضّل بعض قادتها الحل، وتردد آخرون، لكن الجنرالات كانوا في كل مرة يضعون الفيتو. لذلك، فإن الصحراء ليست أزمة حدود، بل عقدة سلطة.