في خطوة غير مسبوقة على مستوى العلاقات المغربية الجنوب أفريقية، أعلنت الرباط عن تحول لافت في المزاج السياسي القادم من بريتوريا. جاكوب زوما، الرئيس السابق لجمهورية جنوب أفريقيا وزعيم حزب “أومكونتو ويسيزوي”، اختار العاصمة المغربية ليُعلن منها دعمه الصريح لمقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحل وحيد وواقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء.
ورغم أن اسم زوما ارتبط طويلاً بالإرث التاريخي لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، إلا أن تصريحه الأخير، عقب مباحثات رسمية مع وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة، تجاوز حدود المجاملة السياسية. إنه إعلان استراتيجي يحمل أكثر من مجرد تأييد لحل مقترح، بل يمثل بداية تصحيح دبلوماسي داخل جنوب أفريقيا، طالما احتُجز موقفها في قوالب أيديولوجية متجاوزة، فرضها التحالف القديم مع الجزائر وجبهة البوليساريو.
انزياح في البوصلة السياسية لبريتوريا
توقيت الإعلان ومكانه ليسا تفصيلاً عابرًا. فمن الرباط، التي باتت مركزًا محوريًا للدبلوماسية الأفريقية، اختار زوما أن يحرّك ساكنًا في الموقف الجنوب أفريقي المتكلس، ويبعث بإشارة مزدوجة إلى الداخل والخارج: إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأن السياسة الخارجية ليست إرثًا جامدًا، وإلى الدول الأفريقية بأن جنوب أفريقيا الجديدة تعيد النظر في تحالفاتها التقليدية في ضوء تحولات القارة.
الأهم في هذا التحول أنه لم يصدر عن حزب طارئ، بل عن ثالث قوة سياسية في جنوب أفريقيا، يقودها رجل خَبِر آليات السلطة ودوائر القرار، ولديه قاعدة نضالية وشعبية لا يُستهان بها، رغم الجدل المرافق لسجله في الحكم.
من كوت ديفوار إلى الرباط: مسار لم يُولد من فراغ
اللقاء الذي جمع زوما بالعاهل المغربي الملك محمد السادس سنة 2017 على هامش قمة الاتحاد الأفريقي–الاتحاد الأوروبي في أبيدجان، لم يكن مجرد مصافحة بروتوكولية، بل شكّل منعرجًا في العلاقة بين البلدين. والعودة إليه في خطاب زوما بالرباط ليست استدعاءً للحنين، بل ترسيخ لشرعية هذا التقارب باعتباره نتيجة لتراكم سياسي، لا طفرة ظرفية.
هذا التقارب لم يكن ممكنًا لولا الاستراتيجية المغربية الذكية التي نجحت، دون ضجيج، في بناء قنوات مع نخب جنوب أفريقيا خارج القنوات الرسمية التقليدية، وذلك عبر حوار ناعم مع من كانوا إلى الأمس القريب في صف الجبهة الانفصالية. هذه الدبلوماسية الهادئة، المتأنية، لم تسعَ إلى افتكاك الاعتراف، بل إلى زراعة الاقتناع.
جنوب أفريقيا أمام مفترق طرق
إن دعم زوما للحكم الذاتي لا يُقرأ كموقف حزبي محدود، بل كبداية تحول جدي في مقاربة جنوب أفريقيا لقضية الصحراء. فهو يفتح الباب أمام سيناريوهات عدة:
- السيناريو المرجّح: صعود تدريجي لحزب “أومكونتو ويسيزوي” يجبر حزب المؤتمر الوطني على إعادة حساباته، خصوصًا إن كانت نتائج الانتخابات المقبلة غير حاسمة. في هذه الحالة، قد تنتقل بريتوريا من دعم معلن للانفصال إلى حياد بنّاء، وربما إلى اعتراف فعلي بمقترح الحكم الذاتي.
- سيناريو التوازن الهش: في حال مشاركة الحزب في حكومة ائتلافية، سيتولد انقسام داخلي قد يشلّ القرار الخارجي، ما يضعف موقف البوليساريو ويمنح المغرب هامش مناورة دبلوماسيًا.
- سيناريو الجمود المؤقت: قد يبقى الموقف الرسمي متشبثًا بالموقف التقليدي، لكن وجود معارضة قوية تتبنى خيار الوحدة الترابية للمغرب سيؤسس لمعارك داخلية تفتح نقاشًا عميقًا حول مصلحة جنوب أفريقيا القارية والدولية.
- السيناريو الأقل ترجيحًا: أن يبقى دعم زوما بلا أثر مباشر. لكنه، على المدى المتوسط، سيكون نقطة ارتكاز لمن سيخلف الحزب الحاكم أو ينازعه نفوذه داخل المؤسسة.
المغرب يثبت قدرته على إعادة صياغة الحلفاء
ما ينجزه المغرب في هذا الملف لا يقتصر على جبهة الصحراء، بل يعكس نجاعة نهج دبلوماسي جديد يقوم على الانتقال من مجابهة الخصوم إلى تفكيك سردياتهم من الداخل. فحين يتحول زعيم جنوب أفريقي إلى مناصر لمقترح الحكم الذاتي، فهذا يبعث برسالة مزدوجة إلى العواصم التي طالما وقفت ضد وحدة المغرب: أن زمن الشعارات الأيديولوجية قد ولّى، وأن المغرب يربح المعركة بصمت، في دوائر التأثير قبل المنابر