كعادته، ظهر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مساء الجمعة، لا ليُقنع، بل ليُبهر… أو بالأحرى ليُدهشنا بقدراته الخارقة على تحويل الأرقام إلى شعارات، والخيبة إلى منجزات، والعزلة إلى «مناورات خارجية».
في لقائه الدوري مع الصحافة، بدا المشهد أكثر عبثية من المعتاد، رئيس مترهل على كرسي أكبر من حجمه، وساقاه تائهتان بين ديكور تقشفي وابتسامات صحفيين لا يعرفون إن كانوا يستجوبون رئيس دولة أم يودّعونه في آخر ظهور سياسي له.
لكن المفاجأة لم تأتِ من تبون. بل من صحفيين محليين تجرأوا — ويا لجرأتهم — على كسر رتابة البروباغندا، وطرحوا أسئلة حقيقية، من قبيل: لماذا تعيش الجزائر عزلة دولية؟ ومتى سيتوقف النزيف الدبلوماسي أمام المغرب في ملف الصحراء؟
ماذا يحدث عندما يُسأل الرئيس؟
في لحظة درامية تكاد توازي مشهد النهاية في فيلم سياسي من الدرجة الثانية، باغت الصحفي محمد عصماني الرئيس بسؤال يحمل كل علامات التمرّد: “أليس تعنّت الجزائر هو سبب تراجعها دبلوماسيًا؟”.
هنا تجلى الوجه الآخر لتبون ، لم يعد ذاك الأب الحنون الذي يوزع وعود التحلية على عطاشى تيارت، بل تحول إلى مدرّس غاضب من تلميذ تجرأ على استخدام المنطق. طالب الصحفي بدليل على هذه «النكسات»، فكان بإمكانه أن يتوقع أن يُذكر اعتراف واشنطن، أو مدريد، أو حتى كيب تاون بمغربية الصحراء… لكن الصحفي اكتفى بجرعة واقعية قائلا: “البراغماتية يا سيادة الرئيس، ليست خيانة بل أساس الدبلوماسية.”
الرئيس الذي يهدد… بلطف
رد تبون لم يكن تهديدًا صريحًا، لكنه لم يكن طبطبة على الكتف أيضًا. اتهم السؤال بـ«التوجيه» و«الإملاء»، كما لو أن كل من يشك في نجاحاته يتآمر من الخارج أو يقرأ من ورقة استخبارات أجنبية. ثم أضاف بنبرة الأب الغاضب: “هل تريدوننا أن نتحول إلى نظام إمبريالي؟”، وكأن البراغماتية نقيض لمبادئ الثورة… أو ربما نقيض لخيالات المرادية.
وفي مشهد آخر لا يقل طرافة، سأله صحفي عن استثمار ماليزي بـ20 مليار دولار. فرد تبون باقتضاب عبقري: “في الصناعة!”، وكأن مجرد ذكر الكلمة كافٍ لطمأنة الاقتصاد الوطني. أين؟ كيف؟ في ماذا؟… تلك تفاصيل مملة لا وقت لها في دردشة رئاسية.
دولة تحارب العطش… بالخيال
وعد تبون، دون أن يرف له جفن، بأن الجزائر ستضاعف محطات تحلية المياه من 5 إلى 10، وأن “لا جزائري سيعطش بعد الآن”، وهو تصريح قد يُدخل التاريخ، خصوصًا إذا استُخدم كخاتمة ساخرة في نشرة جوية تحذّر من الجفاف.
لكن أحد الصحفيين ذكّره بأن كل هذه الوعود تحتاج إلى أموال، وأن أسعار النفط لا تُبشّر بخير. فكان رد تبون قاطعًا ، لا تقشف، لا مديونية، لا خوف… “لدينا شركات ناشئة!”. نعم، 20 ألف شركة ناشئة بحلول 2029! ربما تشمل واحدة منها تكنولوجيا لتكاثر الماء في الهواء، أو أخرى لتحويل التصريحات إلى إنجازات.
تبون والولايات المتحدة: حين يصبح ترامب صديقًا وفيلسوفًا
عندما سُئل عن الرسوم الجمركية الأمريكية التي تخنق الصادرات الجزائرية، انحنى تبون دبلوماسيًا قائلا إن لترامب “الحق السيادي” في فرض ما يشاء، مضيفًا أن أمريكا “صديقة”. يبدو أن القطيعة مع فرنسا أوجدت حاجة ماسّة إلى حليف بديل، حتى ولو كان ترامب نفسه.
زعيم الذكاء الاصطناعي… وقبطان السفينة الغارقة
أكثر لحظات اللقاء سريالية كانت عندما أعلن تبون بفخر أن الجزائر “رائدة الذكاء الاصطناعي في إفريقيا والمغرب العربي، خصوصا من خلال جيشنا”. وهي جملة تصلح عنوانًا لرواية خيال علمي، أو مرافعة دفاع في محكمة التاريخ.
ثم تابع بنبرة الملهم: “نحن الجامعة العالمية الأولى في مكافحة الإرهاب”. بعد كل هذا، لم يتبقَ سوى أن يُعلن تحويل ورقلة إلى سيليكون فالي، وبشار إلى مختبر لتطوير الإنسان الآلي.
رئيس يختصر الأزمة في مؤامرة، والانهيار في مناورة، والتراجع في إنجاز. رئيس لا يحتاج إلى أرقام واقعية، بل يكفيه قنطار من الحبوب وخيال مدهش بالزراعة الرقمية.
لكن خلف هذه النكتة الممتدة اسمها تبون، هناك مأساة سياسية لدولة تائهة. اللقاء الذي أرادته السلطة استعراضًا للقوة، تحوّل إلى كشف مؤلم عن ضعف المنظومة، وانكشافها حتى أمام أكثر الصحفيين تبعية.
وفي انتظار دردشة قادمة، قد يطلّ علينا تبون ليبشرنا بتصدير الماء إلى أوروبا، أو افتتاح جامعة للذكاء الاصطناعي في تمنراست. أما الحقيقة، فهي أن الجزائر لا تحتاج إلى مزيد من الشعارات… بل إلى رئيس لا يجلس على كرسي الاعتراف متعبًا، بل على كرسي الحقيقة مسؤولًا.