المهاجرون بين مطرقة البيروقراطية وسندان الاحتيال: سوق سوداء لـ”تسوية الأوضاع” في فرنسا
يوسف الفرج
باريس – وسط حرارة الصيف، اصطفّ طابور طويل أمام “حافلة التضامن” التابعة لنقابة المحامين في باريس، في الدائرة الثامنة عشرة ذات الطابع الشعبي. داخل الحافلة، كان أربعة محامين يقدّمون استشارات مجانية لمهاجرين جاؤوا من الجزائر والكاميرون والسلفادور، يترقبون بصبر دورهم. بالنسبة لهؤلاء، أي معلومة قانونية موثوقة قد تعني الفارق بين البقاء في الظل أو الحصول على حق قانوني للإقامة.
لكن خلف هذه المبادرات الإنسانية، يزدهر سوق موازٍ قائم على استغلال هشاشة المهاجرين وضياعهم في متاهة الإجراءات البيروقراطية الفرنسية. من “مراكز تدريب” مدفوعة لتحضير طالبي اللجوء، إلى شبه قانونيين يقدّمون وعودا كاذبة بتجديد تصاريح الإقامة، تتعدد الواجهات، والنتيجة واحدة: استنزاف جيوب من لا يملكون إلا القليل.
أحمد: ضحية بيدين مشققتين
أحمد، خمسيني تونسي ضعيف الفرنسية، أمضى سنوات يعمل في ورش البناء، محتفظا بكشوف رواتبه كدليل على جهده. بعد نصيحة من جمعية محلية، لجأ إلى محاميي الحافلة، بعدما تعرّض للاحتيال على يد شخص قدّم نفسه كـ”خبير قانوني”. ابتزه 700 يورو لقاء وعود فارغة، ولم يكتفِ بذلك، بل كان يطلب منه في كل مراجعة مستندا جديدا مقابل 90 يورو إضافية.
“لم أكن أجرؤ على الاعتراض،” يقول أحمد لوكالة فرانس برس، “كنت خائفا من الترحيل.”
من الورق إلى الرقمنة: أرضية خصبة للنصب
مع الانتقال من تقديم المستندات الورقية إلى الإجراءات الرقمية، ارتفعت شكاوى المهاجرين. فالتكنولوجيا التي كان يُفترض أن تُبسط المعاملات، أفرزت تعقيدات جديدة فتحت الباب أمام وسطاء مشبوهين.
تقول إيزابيل كارير، مؤسسة جمعية “أنتاناك” التي تساعد المهاجرين في التعامل مع المنصات الرقمية: “كثيرون يقصدوننا بسبب أخطاء يرتكبها محامون عديمو الضمير أو مكاتب خدمات غير نزيهة. المشكلة لم تعد استثناء، بل أصبحت نمطا متكررا.”
إعلانات خادعة على المترو و”تيك توك”
قبل عام، ظهرت إعلانات في المترو وعلى وسائل التواصل الاجتماعي تروّج لمكاتب تقدم “مساعدة في الإجراءات الفرنسية”. سرعان ما اكتشف العشرات أنهم وقعوا ضحية عمليات نصب.
ساندرا موران، مسؤولة نقابية في إحدى ضواحي باريس، تؤكد أنّ “الإجراء المبسّط للحصول على موعد إداري مجاني تماما، لكن هذه المكاتب تفرض مئات اليوروهات.” وتروي حالة مهاجر دفع 2000 يورو مقابل موعد لم يكن بحاجة لدفع سنت واحد من أجله.
أما على منصة “تيك توك”، فقد حصد شخص يطلق على نفسه “المدرب هيرفي ك” أكثر من 23 ألف متابع، يعدهم ببطاقة سحرية تتيح التنقل بحرية. عند الاتصال به، يُعرض على المهاجرين اشتراك فوري بـ365 يورو (مع تهديد برفع السعر في اليوم التالي إلى 495)، مقابل “إرشاد قانوني” غالبا بلا قيمة قانونية.
“أكاديمية اللجوء”: التعليم المدفوع للوهم
داخل مجموعات “واتساب”، تعرض خدمات غريبة: دورات تدريبية كمربيات أو مساعدات منزليات بلا تصريح إقامة مقابل 800 إلى 1200 يورو، أو الانضمام إلى “أكاديمية اللجوء” بـ1299 يورو.
تتضمن الباقة “كتابة وتنقيح السيرة الشخصية” المطلوبة في طلب اللجوء، وهي وثيقة حاسمة يدرسها موظفو الدولة لكشف التناقضات. لكن كثيرين، وفق موران، ينتهون بدفع مبالغ طائلة من دون أن يحققوا أي تقدم.
شعور بالعار والضعف
الضحايا، كما تشرح موران، “غالبا ما يشعرون بالخجل من الاعتراف بما جرى لهم، لأنهم تعرضوا سابقا للنصب خلال رحلة هجرتهم، فيعتبرون أن الأمر قدر محتوم.” هذا الإحساس بالعجز يرسخ وضعية هشّة تجعلهم فريسة سهلة لجولات جديدة من الاحتيال.
أزمة مركّبة
بين بيروقراطية متصلبة، ورقمنة أربكت المستخدمين، ووسطاء يبيعون الوهم، يجد آلاف المهاجرين أنفسهم في وضع غير مريح: محاصرون بين قوانين صارمة وأوهام مسوقة بمهارة تجارية.
ومع تشديد معايير تسوية الأوضاع وتضاعف الطعون في السنوات الأخيرة، يبدو أن هذه السوق السوداء ستظل مزدهرة ما لم تتحرك السلطات لتشديد الرقابة، وتوسيع نطاق الدعم القانوني المجاني للمهاجرين، حتى لا يبقى أمثال أحمد عالقين بين مطرقة النظام الإداري وسندان المحتالين.