فرنسا تبحث عن موطئ قدم في الأقاليم الجنوبية المغربية: شراكة تنموية أم سباق نفوذ؟
مجدي فاطمة الزهراء
في مشهد يعكس عودة الدفء إلى العلاقات المغربية الفرنسية، أكد السفير الفرنسي في الرباط كريستوف لوكورتييه أن بلاده تطمح إلى أن تكون شريكاً رئيسياً في تنمية الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، بما يعود بالنفع على السكان المحليين الذين يعيشون دينامية تنموية غير مسبوقة في ظل الرؤية الاستراتيجية للملك محمد السادس.
التصريحات جاءت بمناسبة المنتدى الاقتصادي المغربي – الفرنسي بمدينة الداخلة، الحدث الذي اختير له بعناية رمزية تعكس التحول الجغرافي والدبلوماسي للمغرب نحو أقاليمه الجنوبية باعتبارها قاطرة جديدة للتنمية الوطنية وبوابة القارة الأفريقية.
داخلة… من الهامش إلى مركز القرار الاقتصادي
لم يكن اختيار مدينة الداخلة، الواقعة في قلب الصحراء المغربية، محض صدفة. فهذه المدينة أصبحت خلال العقد الأخير عنواناً للتحول الاقتصادي المغربي، بما تحتضنه من مشاريع للطاقة المتجددة، وموانئ استراتيجية، واستثمارات في قطاعي الصيد البحري والسياحة.
لوكورتييه شدّد في تصريحاته على أن هذه الإمكانات “تجعل من الأقاليم الجنوبية مركزاً حقيقياً في منطقة الساحل وغرب أفريقيا”، مضيفاً أن “هذه الرؤية هي رؤية الملك محمد السادس، ونحن نتقاسمها ونريد الإسهام فيها بفعالية”.
باريس تبحث عن موقع في مشهد اقتصادي يتغير بسرعة
يقول المحلل السياسي المغربي العباس الوردي إن “فرنسا تدرك اليوم أن المغرب أصبح رقماً صعباً في معادلة الاستثمارات الإقليمية، خصوصاً بعد انفتاحه على شركاء جدد مثل واشنطن وبكين ومدريد”.
ويضيف أن “باريس تبحث عن موطئ قدم داخل الأقاليم الجنوبية للمملكة، في إطار مقاربة براغماتية قائمة على الربح والثقة المتبادلين، وعلى أساس احترام سيادة المغرب على صحرائه”.
ويعتبر الوردي أن هذا التوجه الفرنسي “يعكس وعياً متزايداً لدى باريس بضرورة التكيف مع التحولات الجيوسياسية الجديدة، وبأن الرهان على شراكة اقتصادية متقدمة مع المغرب هو المدخل الطبيعي لاستعادة توازن العلاقات الثنائية التي مرت سابقاً بفترات فتور”.
من الاقتصاد إلى الثقافة… تمدد فرنسي ناعم في الجنوب
لم يقتصر الطموح الفرنسي على الاستثمار المالي فحسب، بل شمل أيضاً مجالات التعليم والثقافة. فقد أعلن السفير لوكورتييه عن افتتاح مؤسسات تعليمية فرنسية جديدة بالأقاليم الجنوبية، وإنشاء مركز ثقافي ومركز لمعالجة طلبات التأشيرات، فضلاً عن توسيع نطاق عمل الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) ليشمل هذه المناطق لأول مرة.
هذه الخطوات تعكس، بحسب مراقبين، محاولة فرنسية لإعادة التموضع الثقافي والاقتصادي في منطقة باتت تحظى باهتمام قوى دولية أخرى، مثل الولايات المتحدة وإسبانيا، اللتين عبرتا عن دعمهما الصريح لسيادة المغرب على صحرائه وقررتا الاستثمار فيها.
الوكالة الفرنسية للتنمية تدخل على الخط
في السياق ذاته، أعلن المدير التنفيذي لمجموعة الوكالة الفرنسية للتنمية ريمي ريو أن المجموعة ستبدأ هذا العام توجيه استثمارات مباشرة نحو الأقاليم الجنوبية، انسجاماً مع التزامات الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته الأخيرة إلى المغرب.
وقال ريو إن هذا التوجه يأتي في إطار “مقاربة تشاركية بين المغرب وفرنسا، تهدف إلى دعم التنمية المستدامة وتعزيز الأمن الغذائي والاقتصاد الأزرق”.
ومن المنتظر أن تساهم الوكالة في تمويل مشاريع زراعية وصناعية، أبرزها المنصة الفلاحية الجديدة التي يقودها المكتب الشريف للفوسفاط، ما يعكس رغبة باريس في الانخراط في المنظومة التنموية المغربية بدل الاكتفاء بالشراكات التقليدية.
تقاطعات المصالح الدولية في الجنوب المغربي
التوجه الفرنسي الجديد نحو الأقاليم الجنوبية يأتي متزامناً مع إعلان نائب وزير الخارجية الأميركي كريستوفر لانداو عن تشجيع الاستثمارات الأميركية في الصحراء المغربية، في إطار الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب عليها.
هذه التطورات تبرز أن المنطقة أصبحت ساحة تنافس اقتصادي ودبلوماسي بين القوى الكبرى، التي تسعى إلى ترسيخ حضورها في منطقة يُنظر إليها اليوم كبوابة استراتيجية لأفريقيا ومركز للطاقة المتجددة والتجارة الأطلسية.
من الشراكة التاريخية إلى الرؤية المستقبلية
يرى السفير الفرنسي أن المملكة المغربية أصبحت “فاعلاً أساسياً في تطوير الصناعة الفرنسية”، مشيراً إلى أن “نسبة القيمة المضافة الناتجة عن الاستثمارات الفرنسية في المغرب في تزايد مستمر”.
ودعا لوكورتييه إلى إقامة شراكة أكثر تقدماً تقوم على مبدأ خلق القيمة داخل المغرب، سواء للسوق المحلية أو لإعادة التصدير نحو أوروبا.
تسعى فرنسا، من خلال هذا الانخراط الجديد في الأقاليم الجنوبية، إلى تجديد موقعها في خريطة الشركاء الاستراتيجيين للمغرب بعد مرحلة من الغموض في العلاقات الثنائية.
غير أن هذا الانفتاح لا يمكن فصله عن التحولات العميقة في موازين القوة الاقتصادية والسياسية التي جعلت من المغرب مركز ثقل إقليمي، ومن أقاليمه الجنوبية مختبراً لنموذج تنموي مندمج يجمع بين السيادة والفرص الاستثمارية.
ومهما كانت الدوافع، فإن دخول باريس إلى الجنوب المغربي، بعد واشنطن ومدريد، يعكس إدراكاً متزايداً بأن من يراهن على صحراء المغرب اليوم، إنما يراهن على مستقبل التنمية في غرب أفريقيا، وعلى شراكة جديدة عنوانها: الواقعية والاحترام المتبادل.