الطبيب الذي داوى الوزارة بإنذارٍ شفهي!

بوشعيب البازي

في المغرب، لم يعد الطبيب يكتفي بقياس الضغط الدموي… بل أصبح يقيس ضغط الوزارة أيضًا.

فها هو طبيب من مستشفى الحسن الثاني بأكادير يوجّه “إنذارًا رسميا” إلى وزير الصحة، يمنحه فيه مهلة 72 ساعة — بالضبط كما في أفلام الأكشن الرديئة — لإرجاع زملائه الموقوفين، وإلا فإنه سيكشف “معلومات خطيرة” قد تُسيء إلى سمعة الوزارة.

طبيب غاضب، وزارة صامتة، و72 ساعة من التشويق المجاني.

الفرق الوحيد بين هذه القصة وبين مسلسل تركي هو أن السيناريو عندنا دائمًا حقيقي.

لكن لنكن منصفين: الطبيب لم يهدد من فراغ، بل من واقع قطاع يعيش حالة احتقان دائمة. فبين الرواتب المتآكلة والمستشفيات التي تشتغل بمنطق “الحد الأدنى من الحياة”، صار الطبيب المغربي مثل جهاز الإنعاش نفسه: يعمل بصعوبة، ويحتاج من يُنعشه.

إلا أن الخط الفاصل بين “الاحتجاج” و”الابتزاز” يبقى دقيقًا كخيط المصل، لأن من يعرف بوجود “فساد داخل الوزارة” ويصمت عنه إلى حين الغضب، يشبه من يحتفظ بوصفة دواء سري إلى أن ترتفع حرارته هو.

فإن كنت تعرف الداء يا سيدي الطبيب، لماذا انتظرت لتشهره كسلاح لا كبلاغ؟ الطريف أن القضية كشفت مرة أخرى عن عمق الأزمة البنيوية في قطاع الصحة، حيث صار الكل يهدد الكل:

الطبيب يهدد الوزير، الوزير يهدد بالإحالة، والنقابة تهدد بالإضراب. أما المريض، فلا يهدد أحدًا، لأنه غالبًا ينتظر في الطابور دون موعد… أو دون أمل.

جيل جديد من الأطباء بدأ يتحدث بلغة “الترند”،  إنذار بـ72 ساعة، تهديد بكشف الأسرار، وحملة تضامن على “تيك توك” تحت هاشتاغ #رجّعوا_الناس.

جيلٌ طبي واعٍ بحقوقه، لكنه يعيش في منظومة ما تزال تشتغل بنظام الورق والموافقة المسبقة، وكأن التطبيب في المغرب يحتاج أولًا إلى علاجٍ من البيروقراطية.

الوزارة، من جهتها، لم تُصدر أي بيان رسمي. ربما تنتظر بدورها انتهاء “المهلة”، أو لعلها تأخذ وقتها في حساب ساعات الإنذار.

وفي غياب التواصل، يواصل الرأي العام تأويل الصمت، كما جرت العادة في كل القضايا التي تبدأ بتسريب وتنتهي بتكذيب.

القضية إذن ليست بين طبيب ووزير، بل بين مرفق صحي مريضٍ بالاحتقان ومواطنٍ منهكٍ من الانتظار. القطاع الذي يُفترض أن يزرع الطمأنينة صار بؤرة توتر، والطب الذي يُفترض أن يداوي، صار نفسه يحتاج إلى علاج طارئ في قسم الحكامة.

وفي النهاية، يمكن القول إن الطبيب قد يكون أخطأ في الشكل، لكنه لم يخطئ في الإحساس. فالقطاع فعلاً مريض، لكن يبدو أن الدواء لن يأتي من حقنةٍ ولا من إنذارٍ بـ72 ساعة، بل من جراحة عميقة في ضمير الإدارة نفسها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com