الجزائر وجمهورية تندوف: معضلة ما بعد الصحراء المغربية

بوشعيب البازي

بعد مرور ما يقارب نصف قرن على افتعال نزاع الصحراء، تتجه المنطقة المغاربية نحو منعطف حاسم. فمع توالي اعترافات القوى الكبرى بمغربية الصحراء، وازدياد عزلة جبهة البوليساريو على الساحة الدولية، تبرز اليوم معضلة جديدة في الجنوب الغربي للجزائر: مستقبل ما يُعرف بجمهورية تندوف، الكيان الذي استقر على التراب الجزائري منذ منتصف السبعينيات.

من ورقة ضغط إلى عبء سياسي

لطالما استغلت الجزائر وجود مخيمات تندوف كورقة ضغط دبلوماسية ضد المغرب، متذرعة بما تسميه “حق تقرير المصير”. لكن مع التحول الدولي الواضح نحو دعم مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، أصبحت الورقة التندوفية عبئاً سياسياً وأمنياً على الدولة الجزائرية نفسها.

فالأشخاص الذين وُلدوا في هذه المخيمات بعد عام 1975 لم يعرفوا أرضاً غير الجزائرية، ويحملون كل سمات الهوية الجزائرية من لغة وتعليم وثقافة وانتماء إداري. هؤلاء ليسوا لاجئين بالمعنى القانوني، بل مواطنون يعيشون في منطقة خارجة عن سيادة الدولة شكلاً، لكنها خاضعة لها فعلاً.

الأسئلة التي كانت مؤجلة لعقود بدأت اليوم تُطرح بحدة:

هل يمكن للجزائر أن تبقي على كيان مسلح داخل أراضيها بعدما فقد مبرر وجوده؟ وكيف ستتعامل مع قيادة بوليساريو التي بنت نفوذها وامتيازاتها في تندوف، وتصر على البقاء كدولة داخل الدولة؟

تندوف: السيادة المزدوجة

في الواقع، ما جرى في تندوف منذ عقود هو تكوين كيان موازٍ داخل السيادة الجزائرية. فقيادات البوليساريو تسيطر على المعابر، وتصدر وثائق خاصة، وتتحكم في المساعدات الإنسانية، بل ولها سلطة شبه مطلقة على سكان المخيمات. الجزائر من جهتها تغضّ الطرف، لأنها كانت تعتبر هذا الوضع استثماراً استراتيجياً ضد المغرب.

لكن اليوم، وبعد أن تحقق المغرب مكاسب دبلوماسية واسعة ونجح في فرض مقترحه للحكم الذاتي كخيار وحيد واقعي، تحولت تندوف إلى عبء داخلي يهدد التوازن الجزائري نفسه.

فالسيادة الجزائرية ناقصة في منطقة تندوف، والكيان الموجود هناك لا يعترف بالحدود الجزائرية، بل يعتبر نفسه “جمهورية” مستقلة، في تناقض صارخ مع القانون الدولي ومع مفهوم الدولة الواحدة.

سيناريوهات ما بعد النهاية

مع اقتراب طيّ ملف الصحراء المغربية نهائياً، تجد الجزائر نفسها أمام ثلاثة سيناريوهات صعبة:

  1. الدمج التدريجي لسكان المخيمات
    وهو الخيار الأكثر منطقية وإن كان الأكثر كلفة. فالدولة الجزائرية قد تضطر إلى دمج عشرات الآلاف من سكان تندوف كمواطنين كاملي الحقوق، وهو ما يعني تحمل أعباء اقتصادية واجتماعية كبيرة، خاصة في منطقة تعرف هشاشة بنيوية في الخدمات وفرص الشغل.
  2. الترحيل أو الطرد نحو الحدود المغربية
    وهو سيناريو غير إنساني وخطير، قد يعيد إلى الأذهان ما تقوم به الجزائر مع المهاجرين الأفارقة من دول الساحل، حيث تُرحّلهم قسراً نحو الحدود. لكن هذا الخيار في حالة تندوف سيكون مغامرة دبلوماسية كارثية، إذ لا يمكن للمغرب استقبال أشخاص لا يعترف بهم كمواطنين مغاربة ولا تربطهم به علاقة قانونية.
  3. استمرار الوضع الحالي بشكل صوري
    وهو السيناريو المفضل لدى النظام الجزائري في المدى القصير: إبقاء الوضع على ما هو عليه، مع محاولة إخفاء الطابع الانفصالي للكيان، وتحويله تدريجياً إلى ملف داخلي إنساني. لكن هذا التأجيل سيجعل من تندوف قنبلة سياسية واجتماعية مؤجلة داخل الجزائر نفسها.

بن بطوش… ورمزية النهايات

من بين أكثر الملفات حساسية في هذا السياق، مصير قادة البوليساريو أنفسهم، وعلى رأسهم إبراهيم غالي، ”بن بطوش”. فالرجل الذي استُقبل كبطل في قصر المرادية قد يجد نفسه قريباً ضيفاً غير مرغوب فيه.

فلا الجزائر قادرة على تسليمه للمغرب، ولا هي مستعدة لتحمّل تبعات بقائه بعد سقوط الذريعة التي بررت وجوده.

ويبقى السؤال الأعمق:

هل يغادر قادة البوليساريو تندوف طوعاً بعدما تحولوا إلى جزء من النسيج المحلي الاقتصادي والعقاري؟ ففي تندوف، لهم أراضٍ وممتلكات ومراكز نفوذ، ويتصرفون كسلطة قائمة على تراب جزائري. وبالتالي، خروجهم لن يكون بسيطاً ولا سلمياً.

الجزائر أمام اختبار الدولة

أياً يكن الخيار الذي ستتخذه الجزائر، فإنها اليوم أمام اختبار سيادي حقيقي. إما أن تُثبت أنها دولة قادرة على استرجاع سيادتها على كامل ترابها، وإما أن تعترف ضمنياً بأن جزءاً من أراضيها خارج السيطرة، وهو اعتراف خطير أمام المجتمع الدولي.

وما يزيد من صعوبة الموقف أن السلطة الجزائرية تعاني فراغاً استراتيجياً واضحاً. فالقصر الرئاسي في المرادية غارق في الحسابات الداخلية، وفاقد للبوصلة الدبلوماسية، بينما العالم يعيد ترتيب مواقفه بناءً على منطق القوة والاستقرار.

نهاية وهم وبداية أزمة داخلية

الاعترافات المتتالية بمغربية الصحراء لم تُنهِ فقط وهم “الجمهورية الصحراوية”، بل كشفت أيضاً العجز البنيوي في السياسة الجزائرية التي بنت عقوداً من الدعاية على قضية لم تكن تملك مفاتيحها.

ومع سقوط هذا القناع، ستجد الجزائر نفسها مجبرة على مواجهة واقع جديد ،

مواطنون في تندوف يعتبرون أنفسهم جزائريين،

وقيادات لاجئة ترفض الرحيل،

ودولة تبحث عن مخرج يحفظ ماء الوجه دون أن تفقد ما تبقى من هيبتها.

ويبقى السؤال الذي سيحسم المرحلة المقبلة:

هل تملك الجزائر الشجاعة لتصحيح خطأ تاريخي عمره نصف قرن،

أم أنها ستترك تندوف تتحول إلى جرح مفتوح داخل جسدها؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com