من سانتياغو إلى الدار البيضاء: المغرب يصعد إلى قمة العالم الكروي… وجيل الشتات يوقّع ملحمة الانتماء
مجدي فاطمة الزهراء
كانت لحظة واحدة جمعت المغاربة من سانتياغو إلى وجدة، ومن نيويورك إلى الدار البيضاء، ومن باريس إلى أكادير. لحظة تجاوزت حدود الزمن والجغرافيا. لم تكن تلك الليلة التي رفع فيها “أشبال الأطلس” الكأس العالمية في سانتياغو مجرّد انتصار رياضي، بل كانت ملحمة وطنية كشفت عن عمق الارتباط بين الوطن وأبنائه في الداخل والخارج، وعن جيلٍ مغربي جديد يعيد تعريف معنى الانتماء من خلال المستديرة.
ليلة لا تنام فيها المدن المغربية
في طنجة كما في العيون، لم تُغلق المقاهي أبوابها، ولم تنطفئ الشاشات الصغيرة في البيوت. حين دوت صافرة النهاية في “إستاديو ناسيونال خوليو مارتينيز برادانوس” في تشيلي، عمّت شوارع المغرب فرحة لم تعرف حدودًا. خرج الناس كما لو أن الفجر حلّ مبكرًا، تعانقت الأعلام، وارتفعت الهتافات، وامتزجت الأغاني الوطنية القديمة بدموع الفرح.
كانت ليلة بيضاء في بلد يعرف أن كرة القدم ليست مجرد رياضة، بل مرآة للكرامة والأمل والانتماء.
حضور مذهل… وملحمة من الشتات المغربي
في المدرجات، لم يكن صوت الأرجنتينيين هو الأعلى، رغم تاريخهم الحافل. كان الحضور المغربي مدهشًا. مئات المشجعين جاؤوا من الدار البيضاء، باريس، الدوحة، مونتريال، ومدن أوروبا وآسيا. بعضهم قطع آلاف الكيلومترات من أجل لحظة وطنية. الخطوط الملكية المغربية نظمت رحلات خاصة من الدار البيضاء إلى سانتياغو، لم تكن مجرد رحلات جماهيرية، بل رحلات حبّ ووفاء حملت رمزية عميقة عن وحدة الوطن عبر العالم.
يقول أحد المشجعين القادمين من شيكاغو:
“لم أسافر إلى تشيلي من أجل كرة القدم فقط، بل لأشهد الحلم الذي انتظرناه منذ كنا أطفالًا.”
كان المشهد مؤثرًا: في قلب الملعب البعيد، كانت مغاربة العالم يرفعون الأعلام جنبًا إلى جنب مع أبناء الداخل، يرددون النشيد الوطني بنفس النبرة، كما لو أن المسافة بين سانتياغو والدار البيضاء لا تتعدى نبضة قلب.
جيل جديد من النجوم… وصوت مغربي عالمي
في الدقيقة الثانية عشرة، أطلق ياسين الزبيري أول رصاصة في مرمى التاريخ. تسديدة دقيقة، صافية، هزّت الشباك وأشعلت المدرجات. ثم عاد في الدقيقة التاسعة والعشرين ليضع بصمته الثانية ويكتب اسمه في سجل الخلود.
وبين دموع الفرح، قال أمام الكاميرات:
“كنت أود أن يكون والداي هنا، لكن ظروفهما الصحية لم تسمح. أهدي لهما الكأس، وأقول للجماهير المغربية ، وعدناكم بالعودة بالكأس، وها هو بين أيدينا.”
كانت كلماته أكثر من تصريح رياضي، كانت اعترافًا بجيلٍ يؤمن أن المجد لا يُورث، بل يُصنع.
على الخط الجانبي، وقف المدرب محمد وهبي، بهدوء القائد الذي يعرف أنه صنع جيلاً من الرجال. قال بعد المباراة:
“ما تحقق اليوم يتجاوز كرة القدم. أردنا أن نكسر الحاجز الزجاجي، وأن نثبت أن الشاب المغربي حين يؤمن بنفسه، يستطيع أن يغيّر مصيره.”
كلماته كانت تختصر فلسفة التكوين المغربي التي انطلقت من أكاديمية محمد السادس، حيث تنمو المواهب وتُصقل كالجواهر.
الاعتراف بالمدرسة المغربية
لم يكن الانتصار مجرد فوز بكأس. كان اعترافًا نادرًا من مدرسة الكرة اللاتينية بمدرسة جديدة تولد من إفريقيا. قال مدرب المنتخب الأرجنتيني دييغو بلاسينتي بصراحة غير معتادة:
“فقدنا أعصابنا بعد الهدف الأول. المنتخب المغربي كان منظمًا، صلبًا، يلعب بعقل وهدوء لا يُصدق. وجدنا صعوبة كبيرة في اختراق دفاعه.”
لقد كانت شهادة غير مكتوبة بأن المغرب لم يعد تلميذًا في كرة القدم، بل أستاذًا في صناعة الأمل.
أبناء الوطن في الخارج… العمود الفقري للمعجزة
من بين الأسماء التي صنعت هذا الإنجاز، برز عدد من اللاعبين المغاربة المنحدرين من الجالية بالخارج:
ياسين الزبيري القادم من هولندا، عثمان معما الذي ترعرع في فرنسا، الحارس عبد الحكيم المصباحي من ألمانيا، وغيرهم ممن جمعوا بين ثقافة المهجر وجذور الوطن.
لقد أثبت هؤلاء أن مغاربة العالم ليسوا فقط جسورًا اقتصادية أو ثقافية، بل قوة رياضية ومعنوية حقيقية تُثري الهوية المغربية وتمنحها بعدًا عالميًا.
ففي كل لحظة من البطولة، كانت روح الجالية المغربية حاضرة: في الهتافات، في الأغاني، وفي المساندة الإلكترونية عبر القارات. لقد شكل أبناء المهجر جزءًا لا يتجزأ من هذا النصر، كما لو أن الكرة أعادت لمّ شتات الوطن في لحظة واحدة من المجد.
كرة القدم كصورة للمغرب الجديد
ما حدث في سانتياغو لم يكن معجزة رياضية فحسب، بل انعكاسًا لصورة المغرب الجديد: بلد يؤمن بأن النجاح الجماعي يصنعه الانفتاح، وأن التفوق ليس صدفة بل ثمرة رؤية بعيدة المدى.
فالمنتخب الشاب الذي حمل الكأس إلى الرباط هو ثمرة عملٍ مؤسساتي بدأ قبل سنوات، واستثمارٍ في التكوين، في البنية التحتية، وفي الحلم.
إنه جيل يُجسد رؤية الملك محمد السادس في جعل الرياضة مدرسة للمواطنة، وجعل المغاربة، أينما كانوا، جسدًا واحدًا وعقلاً واحدًا.
أكثر من كأس… إنها لحظة هوية
مع بزوغ فجر اليوم التالي، كانت الشوارع لا تزال صاخبة، والأطفال ناموا متوشحين بالأعلام.
لكن ما حمله “أشبال الأطلس” من سانتياغو لم يكن مجرد كأس من ذهب، بل إيمانٌ جماعيٌ بأن المستحيل كلمة عابرة، وأن الانتماء للمغرب لا تحده المسافات ولا الجنسيات.
لقد فعلها المغرب مرة أخرى. لم ينتصر فقط في الملعب، بل في قلوب أبنائه عبر العالم، مثبتًا أن الحلم حين يصاغ بالإيمان يصبح واقعًا، وأن الكرة – مثل الوطن – حين تُلعب بالحب، لا تُهزم أبدًا.