الجزائر والكرسي الشاغر… حين يهرب النظام من التصويت خوفاً من الحقيقة

بوشعيب البازي

يبدو أن النظام الجزائري وجد أخيراً الحل السحري لكل مأزق دبلوماسي: الكرسي الشاغر. نعم، تلك السياسة العجيبة التي تختصر الفشل في فعل واحد بسيط — لا نحضر، لا نصوت، ولا نتحمّل المسؤولية. إنها الوصفة المثالية لتفادي الإحراج عندما يتبيّن أن العالم كله يسير في اتجاه، والجزائر في الاتجاه المعاكس… لكن بالمقلوب.

فبينما العالم يحتفل لأول مرة بقرار أممي يكرّس بوضوح خطة الحكم الذاتي المغربية كحلّ وحيد لقضية الصحراء، ويعترف بها كشكل من أشكال تقرير المصير، اختار النظام الجزائري أن يهرب من القاعة مثل تلميذ ضبط متلبساً بالغش. القرار واضح، صارم، ومكتوب بالحبر الأمريكي الغليظ: الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الحل، والباقي مجرد كلام صالونات.

ترامب… البعبع الدبلوماسي

الصدمة الكبرى جاءت عندما تجرأ النص الأممي على الإشادة بـ”قيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب” في الملف. تخيّلوا! ترامب نفسه، الذي لم تستسغه بيانات الخارجية الجزائرية يوماً، صار فجأة نجم الفقرة الذهبية في مشروع قرار مجلس الأمن. القرار يذكر اسمه بالمدح، لا بالتحفّظ، وكأنه يقول للعالم: “الرجل الذي حسمها من البداية كان على حق”.
في الجزائر، يمكن سماع صرير الأسنان من مكتب المرادية إلى آخر طاولة في “لو سوار دالجيري”، بينما يهرع كتّاب التعاليق إلى تبرير “انحياز” الكون بأكمله للمغرب.

الخطة المغربية… من حلم إلى مرجع أممي

الفقرة المفخخة، كما يسميها دبلوماسي جزائري متقاعد، تقول بالحرف إن مقترح المغرب “الأكثر مصداقية وواقعية” هو “الإطار الوحيد” للحل السياسي. ترجمة غير رسمية ، كل البدائل الأخرى — بما فيها الحلم الانفصالي الذي تصرف عليه الجزائر الملايير — أصبحت من الماضي.
الأمم المتحدة نفسها تقرّ اليوم أن الحكم الذاتي ليس فقط مقبولاً، بل هو التعبير الحقيقي عن تقرير المصير. بمعنى آخر ، من أراد التصويت، فليصوّت من داخل السيادة المغربية، لا من خيام تندوف.

الجزائر طرف رسمي… رغماً عنها

القرار الجديد لم يترك للجزائر حتى رفاهية الاختباء وراء شعار “نحن مجرد دولة مجاورة”. النص يسميها طرفاً معنيّاً بالنزاع، نقطة إلى السطر.
الرسالة بسيطة، اجلسي إلى الطاولة أو تحمّلي مسؤولية الفشل. لا مزيد من سياسة “المتفرج الغاضب”. حتى دي ميستورا، المبعوث الأممي، بات مطالباً بدعوتها بالاسم، لا بالرمز.

المينورسو… البعثة التي تودّع ببطء

المفاجأة الكبرى الأخرى أن القرار يضع ساعته الرملية أمام بعثة المينورسو. مجلس الأمن يطلب من الأمين العام أن يقدّم خطة لتحويلها أو إنهائها خلال أسابيع إذا لم يتحقق تقدّم ملموس. ستة أسابيع فقط!
في لغة الأمم المتحدة، هذا ليس مهلة، بل إنذار. والموعد النهائي حُدّد: 31 يناير 2026.
تخيلوا الرعب في العاصمة الجزائرية حين اكتشفوا أن بعثتهم المفضلة في طريقها إلى التقاعد القسري… تماماً مثل سردية “تقرير المصير” التي باتت بلا عمل.

سياسة الكرسي الشاغر… أو فنّ الهروب من التاريخ

ما الحل إذاً؟ بكل بساطة: لا نحضر التصويت!
نعم، فبعدما اكتشف النظام أن التصويت ضد القرار يعني عزلة دبلوماسية، والتصويت لصالحه يعني الاعتراف الضمني بخطة المغرب، قرر أن لا يصوت إطلاقاً. خطوة عبقرية من نوع “لن أخسر المعركة إذا لم أشارك فيها”.
لكن المشكل أن العالم لم ينتبه حتى إلى غياب الجزائر. لم يتوقف التصويت، ولم تتأثر النتيجة. بل على العكس، بدا غيابها كمنحى طبيعي لدولة فقدت القدرة على التأثير.

الدراما القديمة بنسخة محدثة

في الحقيقة، لم يكن هذا أول هروب. في أكتوبر 2024 أيضاً، قررت الجزائر المقاطعة لأن القرار كان “مؤيداً جداً للمغرب”. النتيجة؟ لا أحد لاحظ.
اليوم، التاريخ يعيد نفسه، لكن بمضمون أكثر مرارة، المغرب يراكم الاعترافات الدولية، والجزائر تراكم بيانات التنديد. نصف قرن من الرعاية للانفصال، انتهى إلى بيان غضب وكرسي فارغ في قاعة التصويت.

الغرق الكبير

القرار الجديد لا يترك مجالاً للالتباس. الحكم الذاتي المغربي صار مرجعاً أممياً، والجزائر طرفاً مباشراً، وترامب شريكاً مكرّماً في الحل. أما المينورسو، فاستعدادات التقاعد بدأت.
كل هذا يجعل النظام الجزائري أمام خيارين ، إما التفاوض بجدية في إطار السيادة المغربية، أو الغرق في بحر العزلة الذي حفره بنفسه.
والأدهى أن الغرق هذه المرة لن يحتاج إلى “حوت” دبلوماسي كبير… فقط إلى الكرسي الشاغر نفسه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com