“قرار مجلس الأمن يكرّس الحكم الذاتي كحل وحيد… والمغرب يفتح صفحة جديدة في تاريخ الصحراء”
بوشعيب البازي
خطاب الملك محمد السادس يرسم ملامح المرحلة المقبلة بين الحسم الدبلوماسي ومدّ اليد إلى الجوار
يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي الصادر مساء الجمعة نقطة تحوّل تاريخية في مسار قضية الصحراء المغربية، إذ حسم المجتمع الدولي ولأول مرة بوضوح موقفه من مقترح الحكم الذاتي الذي قدّمه المغرب سنة 2007، باعتباره الحل الواقعي والوحيد القابل للتطبيق، واضعًا بذلك حدًا لعقود من المناورات السياسية والدبلوماسية التي أحاطت بهذا الملف منذ سبعينيات القرن الماضي.
فخلافًا للقرارات السابقة التي كانت تُبقي الباب مفتوحًا أمام تأويلات متضاربة، جاء القرار الجديد واضحًا في لغته ومضمونه، إذ نصّ على أن مبادرة الحكم الذاتي هي “الأساس الواقعي والعملي” للتفاوض، داعيًا جميع الأطراف — المغرب، الجزائر، جبهة البوليساريو وموريتانيا — إلى الانخراط دون شروط مسبقة في مفاوضات جادة وواقعية.
من “تصفية الاستعمار” إلى “تثبيت السيادة”
بهذا القرار، انتقل ملف الصحراء المغربية من مرحلة “تصفية الاستعمار” إلى مرحلة “تثبيت السيادة”، وهي النقطة التي كان المغرب يعمل من أجلها منذ ما يقارب نصف قرن من الزمن.
فقد صوّتت لصالح القرار إحدى عشرة دولة من أصل خمس عشرة، بينها الولايات المتحدة، فرنسا، بريطانيا، اليونان، وكوريا الجنوبية، فيما امتنعت روسيا والصين وباكستان عن التصويت، دون أي اعتراض صريح على جوهر القرار.
أما جوهر الموقف الأممي هذه المرة، فيكمن في الاعتراف الدولي المتزايد بمركزية المقترح المغربي، مقابل تراجع الطروحات الانفصالية التي لم تعد تملك أي أفق عملي أو دعم فعلي.
خطاب الملك: من الواقعية الدبلوماسية إلى المبادرة الإنسانية
بعد ساعات فقط من صدور القرار الأممي، خرج الملك محمد السادس بخطاب استثنائي إلى الشعب المغربي، يمكن اعتباره بمثابة خارطة طريق للمرحلة المقبلة.
فقد عبّر الملك بوضوح عن أن المغرب يدخل اليوم “فتحًا جديدًا في الطيّ النهائي للنزاع المفتعل”، مؤكدًا أن ما قبل 30 أكتوبر 2025 ليس كما بعده.
وفي خطوة تعكس النضج السياسي للمغرب، لم يتعامل الملك مع هذا القرار بوصفه انتصارًا ضد طرف آخر، بل اعتبره انتصارًا لمنطق الواقعية والتعاون.
وقال جلالته في رسالته:
“إننا نعيش مرحلة فاصلة ومنعطفًا حاسمًا في تاريخ المغرب الحديث… سنعمل على تحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي وتقديمها إلى الأمم المتحدة كأساس وحيد للتفاوض.”
لكن أكثر ما لفت الأنظار في الخطاب هو نداء الملك الإنساني إلى الصحراويين في تندوف للعودة إلى الوطن، والانخراط في التنمية المحلية في ظل الحكم الذاتي، وهي دعوة تحمل بعدًا رمزيًا عميقًا يتجاوز الخطاب السياسي إلى مصالحة وطنية شاملة.
وفي الوقت ذاته، وجّه الملك رسالة مباشرة إلى الجزائر، داعيًا الرئيس عبد المجيد تبون إلى “حوار أخوي صادق” من أجل بناء علاقات جديدة قائمة على الثقة وحسن الجوار. وهي دعوة وُصفت من قبل المراقبين بأنها أكثر اللحظات دبلوماسية وجرأة في الخطاب الملكي منذ عقدين، لأنها جاءت في لحظة انتصار سياسي كبير، لكن دون شماتة أو تصعيد.
مخرجات القرار الأممي: نحو واقعية دولية جديدة
يمثل القرار الجديد اعترافًا أمميًا بضرورة القطع مع منطق “المفاوضات المفتوحة” و”الخطابات الإيديولوجية”، لصالح مقاربة واقعية تعتبر أن الحكم الذاتي هو الحل العملي والوحيد الذي يوازن بين احترام السيادة المغربية وتلبية احتياجات السكان المحليين.
كما حمل القرار تحولًا في مواقف عدة عواصم كبرى، أبرزها واشنطن وباريس ومدريد، التي باتت تعتبر أن استمرار الجمود يهدد الأمن الإقليمي في الساحل وشمال إفريقيا.
الولايات المتحدة وصفت القرار بأنه “تصويت تاريخي يغتنم فرصة فريدة لتحقيق سلام طال انتظاره في الصحراء”، مؤكدة استعدادها لاستضافة المفاوضات بين الأطراف المعنية.
أما فرنسا، فقد رحبت بالقرار باعتباره “انتصارًا للبراغماتية السياسية المغربية”، بينما أكدت إسبانيا دعمها لمبادرة الحكم الذاتي باعتبارها “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لحل النزاع”.
تراجع الخطاب الانفصالي
في المقابل، بدا موقف جبهة البوليساريو أضعف من أي وقت مضى، إذ لم تعد تمتلك سوى ورقة الرفض، بعد أن فقدت الدعم الدولي الذي كانت تستند إليه سابقًا. كما أن الجزائر — التي امتنعت عن التعليق الرسمي على القرار — تجد نفسها أمام موقف دبلوماسي حرج: فالمجتمع الدولي يدعوها إلى المشاركة في المفاوضات كطرف معني، لا كملاحظ خارجي.
هذه التطورات تجعل من الخيارات الجزائرية محدودة للغاية: إما التجاوب مع المبادرة المغربية والانخراط في مسار بناء الثقة، أو العزلة أمام موجة دولية تتجه نحو دعم الحل المغربي.
المغرب: دبلوماسية الصبر الاستراتيجي
لقد أثبتت السنوات الأخيرة أن الرهان المغربي على الدبلوماسية الهادئة والواقعية كان الأكثر فاعلية. فمنذ اعتراف الولايات المتحدة سنة 2020 بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، تتابعت الاعترافات وافتتحت أكثر من ثلاثين دولة قنصلياتها في العيون والداخلة، مما منح القضية زخمًا ميدانيًا ودبلوماسيًا غير مسبوق.
ولعلّ أبرز ما يميز السياسة المغربية في هذا الملف هو الجمع بين الثوابت الوطنية والانفتاح الإقليمي: فالمملكة لم تتراجع يومًا عن سيادتها على الصحراء، لكنها في الوقت نفسه ظلت تؤمن بأن الحل لن يكون إلا سياسيًا وسلميًا.
نحو مرحلة ما بعد القرار
اليوم، وبعد قرار مجلس الأمن وخطاب الملك محمد السادس، تبدو ملامح المرحلة المقبلة واضحة:
- إعادة صياغة مقترح الحكم الذاتي وتحيينه ليتلاءم مع المتغيرات الإقليمية.
- استئناف المفاوضات تحت رعاية الأمم المتحدة بمشاركة مباشرة من الجزائر.
- فتح صفحة جديدة مع سكان المخيمات وإطلاق مشاريع ميدانية لتعزيز التنمية والاندماج.
بهذا المعنى، فإن ما جرى في 30 أكتوبر لا يمثل مجرد تصويت أممي، بل بداية عهد جديد من الحسم الواقعي والهدوء الاستراتيجي، يكرّس المغرب كفاعل إقليمي ناضج، قادر على إدارة الملفات الكبرى بعقلانية القوة وذكاء الدبلوماسية.
انتصار الاعتدال
لقد أثبت المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، أن الاعتدال يمكن أن يكون أقوى من الشعارات، وأن التراكم الهادئ في الميدان والدبلوماسية يمكن أن يغيّر موازين القوى.
فالسيادة لا تُفرض بالشعارات، بل تُبنى بالثقة، والشرعية تُكسب بالواقعية. ومع القرار الأممي الأخير، يكون العالم قد قال كلمته: الحكم الذاتي المغربي ليس خيارًا من بين خيارات، بل هو الطريق الوحيد نحو السلام الدائم.