ناصر بوريطة… مهندس الدبلوماسية المغربية الحديثة وركيزة الحسم في قضية الصحراء
بوشعيب البازي
في عالم تتقاذفه التحولات الجيوسياسية السريعة، وتتصارع فيه المصالح وتتناسل الأزمات، برز اسم ناصر بوريطة كأحد أبرز الوجوه التي طبعت الدبلوماسية المغربية المعاصرة. فالرجل لم يكن مجرد وزير خارجية، بل عقل استراتيجي هادئ أعاد رسم ملامح السياسة الخارجية للمملكة على أسس من التوازن والواقعية والاحترام المتبادل، في زمن كان فيه كثيرون يراهنون على سقوط المغرب في عزلة إقليمية أو صدام دبلوماسي.
ولعلّ العبارة التي تتردد اليوم في الأوساط السياسية والدبلوماسية — “لولا هذا الرجل لتكالبت علينا قوى قريبة وبعيدة” — ليست مجازًا بل توصيف دقيق لمرحلة حاسمة من تاريخ المغرب المعاصر.
من مدرسة الدبلوماسية الملكية إلى هندسة التوازنات الدولية
نشأ ناصر بوريطة في مدرسة الدبلوماسية الملكية التي أسّسها الملك محمد السادس، حيث يشكل البراغماتية والعقلانية أساس التحرك الخارجي للمملكة. فبوريطة لا يتعامل مع الملفات بمنطق الانفعال أو الشعارات، بل بمنطق الدولة التي تعرف وزنها وموقعها ومصالحها.

منذ توليه وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج سنة 2017، انخرط بوريطة في هندسة شبكة توازنات دولية دقيقة جعلت من المغرب طرفًا فاعلًا في مختلف القضايا الإقليمية والدولية، من الأمن في الساحل الإفريقي إلى الحوار بين الشرق الأوسط وأوروبا، وصولًا إلى ملف الصحراء المغربية الذي كان في قلب اهتماماته الاستراتيجية.
دور بوريطة في القرار الأممي الأخير: من المرافعة إلى الإقناع
القرار الذي تبناه مجلس الأمن الدولي يوم 30 أكتوبر 2025، والقاضي باعتبار مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية الحل الوحيد الواقعي للنزاع، لم يكن ثمرة لحظة دبلوماسية عابرة، بل نتيجة عمل دؤوب قاده بوريطة بتنسيق مباشر مع الملك محمد السادس، طيلة الأشهر التي سبقت التصويت.

فقد تنقّل الوزير المغربي بين عواصم مؤثرة مثل واشنطن، باريس، مدريد، ولندن، في جولات مكوكية هدفت إلى توحيد الموقف الدولي حول المقترح المغربي، معتمدًا على منطق الحوار الهادئ والبرهان السياسي، لا على لغة الضغط أو الشعارات.
وبفضل قدرته على بناء الثقة مع نظرائه، تمكّن من كسب دعم 11 دولة من أصل 15 عضوًا في مجلس الأمن، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ هذا الملف.
وبحسب مصادر دبلوماسية في نيويورك، كان الخطاب المغربي الموجه إلى الأمم المتحدة قبل أسبوعين من التصويت من صياغة وإشراف مباشر لبوريطة وفريقه، وقد شكّل ذلك الخطاب المرجع الأساسي الذي استندت إليه عدة بعثات دبلوماسية في تفسير المقترح المغربي.

إن هذا الإنجاز لا يعكس فقط الحنكة المهنية لبوريطة، بل أيضًا القدرة المغربية على الجمع بين العمل الميداني الدبلوماسي والرؤية الملكية الاستراتيجية التي تعتبر الحكم الذاتي “أفقًا نهائيًا وواقعيًا للحل”.
ملف الصحراء المغربية: من الدفاع إلى المبادرة
لقد شكّل ملف الصحراء المغربية المحور الأبرز في مسيرة بوريطة، إذ عمل منذ البداية على تحويله من قضية دفاعية إلى قضية مبادرة. فبفضل تحركاته الهادئة وقراءته الذكية لموازين القوى، تمكّن من إقناع كبريات العواصم الدولية — واشنطن، باريس، مدريد، ولندن — بأن مبادرة الحكم الذاتي هي الحل الواقعي الوحيد للنزاع المفتعل.

ولم يكن ذلك مجرد عمل بروتوكولي، بل مسار دبلوماسي متكامل اعتمد على الإقناع بالحجة، والاستثمار في العلاقات الثنائية، والانفتاح على القوى الصاعدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.
إن التصويت التاريخي الأخير في مجلس الأمن الدولي لصالح مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة جهود تراكمية قادها بوريطة على مدى سنوات، في تناغم تام مع الرؤية الملكية الواضحة التي حدّدها الملك محمد السادس في خطاباته المتتالية.

هندسة التحالفات: دبلوماسية الصبر والاستباق
تميّزت دبلوماسية بوريطة بما يمكن تسميته بـ**“الواقعية الاستباقية”**، وهي مقاربة تقوم على قراءة دقيقة للتحولات الدولية واستباق الأزمات بدل انتظار وقوعها.
فبينما انشغلت دول كثيرة بإطفاء حرائقها الدبلوماسية، كان المغرب ينسج تحالفات صامتة مكّنته من تعزيز موقعه داخل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ومجموعة دول عدم الانحياز.
كما نجح بوريطة في تحييد الخصوم وإعادة صياغة العلاقات مع شركاء تقليديين كانوا في فترات معينة على مسافة من الموقف المغربي، مثل إسبانيا وألمانيا.
وقد أظهرت هذه القدرة على إدارة الأزمات نضجًا مؤسساتيًا نادرًا في المنطقة، جعل المغرب فاعلًا يُحسب له حساب في أي معادلة دبلوماسية.
بوريطة… رجل الدولة قبل رجل الدبلوماسية
إن ناصر بوريطة، بما راكمه من خبرة وتجربة ورؤية، يتجاوز صورة الوزير التقليدي إلى صورة رجل الدولة الذي يضع المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار.
فهو يعرف أن الدفاع عن وحدة التراب المغربي لا يكون فقط عبر البيانات، بل عبر بناء شبكة من الاحترام والمصداقية الدولية تجعل من موقف المغرب حقيقة لا يمكن تجاوزها.
وقد أظهر الرجل في أكثر من محطة أن الدبلوماسية ليست صراعًا بل فنّ إدارة التوازنات، وأن التموقع الذكي في عالم متغير هو سر البقاء والتأثير.
مدرسة في خدمة السيادة
إن الحديث عن ناصر بوريطة هو في الجوهر حديث عن مدرسة مغربية في العمل الدبلوماسي، مدرسة تجمع بين الهدوء والمبادرة، بين الثبات في المبدأ والمرونة في الأسلوب، وبين خدمة السيادة والانفتاح على العالم.
لقد أسّس بوريطة لمرحلة جديدة في السياسة الخارجية المغربية، جعلت من المملكة قوة هادئة لكنها مؤثرة، ومن قضيتها الوطنية الأولى قضية يحسمها المنطق والعقل، لا الدعاية والشعارات.
ولعلّ الأهم أن هذا المسار لم يكن ليكتمل لولا التوجيهات الملكية السامية، والإخلاص المهني لرجل اختار أن يخدم وطنه من موقع الفعل لا القول، ومن منطلق الإيمان بأن الدبلوماسية المغربية ليست دفاعًا عن الماضي، بل بناءٌ لمستقبلٍ في ظل السيادة والاستقرار.