تونس بين السيادة والوصاية: أطماع الجزائر تمتد من الصحراء إلى قصر قرطاج
إعداد بوشعيب البازي
في السابع من أكتوبر الماضي، وقع وزيرا الدفاع في الجزائر وتونس، سعيد شنقريحة وخالد السهيلي، اتفاقًا للتعاون العسكري والأمني، أُعلن عنه بخجل ولم يُكشف من محتواه سوى القليل. فالاتفاق الذي يُفترض أنه يعزز التعاون بين البلدين الجارين، جاء في سياق إقليمي متوتر، أعقب الهجوم الإسرائيلي على “أسطول غزة” قبالة السواحل التونسية، ليثير تساؤلات عميقة حول حدود السيادة التونسية وتنامي النفوذ الجزائري داخل “البلد الشقيق”.
فبينما التزمت الرئاسة التونسية ووزارتا الدفاع والخارجية صمتًا مطبقًا، تسرّبت معلومات تؤكد أن الجزائر تُكرّس عبر هذا الاتفاق رؤيتها القديمة لتونس كـ”الولاية التاسعة والخمسين”، في إشارة رمزية إلى ما تعتبره امتدادًا طبيعيًا لنفوذها السياسي والعسكري نحو الشرق.
ذاكرة التاريخ: عندما انقلبت الجزائر على أشقائها
يذكّر المؤرخ والدبلوماسي التونسي مزري حداد، في الجزء الثاني من تحقيقه، بأن الجزائر ما بعد الاستقلال نسيت سريعًا من وقف إلى جانبها زمن حرب التحرير. فالمغرب وتونس لم يوفرا فقط الدعم السياسي والديبلوماسي، بل احتضنا ما يقارب المليون لاجئ جزائري، فضلًا عن قواعد جيش التحرير الوطني والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بين 1957 و1962.
غير أن الجزائر المستقلة، التي وُلدت من رحم المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي، سرعان ما تبنّت خطابًا مناقضًا لروح التحرر والوحدة المغاربية، مدّعية أن “الصحراء، كل الصحراء، هي لها وحدها”. هكذا تحوّل حلم “اتحاد المغرب العربي”، الذي وُلد في مؤتمر طنجة عام 1958، إلى وهم سياسي انتهى رسميًا بمعاهدة مراكش سنة 1989 التي لم تثمر سوى كيانا هشًا عاجزًا عن تجاوز الخلافات الثنائية.
من “حرب الرمال” إلى “بوليساريو”: مسلسل الهيمنة المستمرة
ما لبثت الجزائر أن دخلت في مواجهة مباشرة مع المغرب سنة 1963، في ما عُرف بـ”حرب الرمال”، إثر اعتدائها على مواقع مغربية في منطقة حاسي بيضا وتيندوف، رغم وجود اتفاق سابق بين الملك الحسن الثاني وفرحات عباس سنة 1961 يقرّ بمبدأ إعادة النظر في الحدود الاستعمارية.
وانتهت الحرب بتدخل منظمة الوحدة الإفريقية ومعاهدة “إفران” عام 1969 التي أعادت السلام مؤقتًا، دون أن تُطفئ جذوة العداء. فبعد سنوات قليلة، دعمت الجزائر حركة “البوليساريو” التي أسسها معمر القذافي، وحولتها إلى ذراعها العسكرية ضد المغرب في نزاع مفتعل حول الصحراء المغربية لا يزال يُستغل حتى اليوم في مجلس الأمن الدولي.
الهيمنة الهادئة على تونس: من بورقيبة إلى قيس سعيّد
أما مع تونس، فقد ظلت الجزائر تمارس نفوذها بأساليب أكثر نعومة، تحت شعار “الأخوة الكبرى”. فالقضية الحدودية بين البلدين، والمعروفة باسم “ملف النقطة 233” عند منطقة “قارة الحامِل”، تعود جذورها إلى الترسيم الاستعماري الفرنسي، الذي منح الجزائر مساحات شاسعة من الصحراء التونسية الغنية بالغاز والنفط.
في خطابه أمام البرلمان سنة 1961، أعلن الرئيس الحبيب بورقيبة بوضوح أن “الحدود التي رسمها الاستعمار سلبتنا جزءًا من صحرائنا ويجب أن تُعاد إلينا بالحق لا بالسلاح”. إلا أن محاولاته لإقناع الرئيس أحمد بن بلة بإنصاف تونس باءت بالفشل أمام تعنت هواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة، اللذين اعتبرا الملف “محسومًا”.
وفي السادس من يناير 1970، وُقع “اتفاق الأخوة وحسن الجوار والتعاون”، وهو ما وصفه مؤرخون تونسيون بـ”معاهدة العار”، حيث تنازلت تونس فعليًا عن 20 ألف كيلومتر مربع من أراضيها الصحراوية لصالح الجزائر مقابل تعويض رمزي لا يتعدى 10 ملايين دينار جزائري.
ورغم مرارة الخسارة، اختار بورقيبة الصمت، لكنه احتفظ طيلة حياته بخريطة “تونس الحقيقية” معلقة في مكتبه، تُظهر الحدود حتى النقطة 233، وكان يقول لزواره ساخرًا: «انظروا… الجزائر تملك بطنًا كبيرًا، مليئًا بالغاز!»
من دعم الثورة إلى خضوع السيادة
الاتفاق العسكري الأخير بين الجزائر وتونس يأتي، إذن، كحلقة جديدة في مسلسل طويل من “الوصاية السياسية”، التي بدأت مع استقلال الجزائر سنة 1962، وتواصلت بأشكال مختلفة، دعم عسكري، ضغوط اقتصادية، وتوظيف للهاجس الأمني المشترك لتوسيع مجال النفوذ الجزائري.
فالجزائر التي فقدت الكثير من وزنها الإقليمي بعد عزلة نظامها العسكري، تبحث اليوم عن شركاء ضعفاء لتثبيت حضورها في شمال إفريقيا، مستغلة هشاشة الوضع الداخلي في تونس وسعي الرئيس قيس سعيّد لتأمين دعم إقليمي لنظامه.
وهم “الأخوة الكبرى”
منذ أكثر من ستة عقود، تتعامل الجزائر مع جيرانها بمنطق “الراعي والتابع”، متناسية أن التاريخ لا يُكتب بالحدود المصطنعة، بل بالتعاون والاحترام المتبادل.
فبينما كان حلم المغاربيين في الخمسينيات هو بناء اتحاد قائم على المساواة، تحوّل الحلم إلى كابوس بفعل نزعة الهيمنة التي استبدلت الاستعمار الفرنسي باستعمار إقليمي جديد.
يبقى السؤال المفتوح اليوم، هل ستقبل تونس بأن تكون “الولاية التاسعة والخمسين” في الجمهورية الجزائرية غير المعلنة؟ أم أن الذاكرة الوطنية ستستعيد يومًا ما خريطة بورقيبة المعلقة خلف مكتبه، رمز السيادة المفقودة؟