في مانت-لا-جولي.. الجالية المغربية تحتفي بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء في أجواء من الوحدة والاعتزاز الوطني
بوشعيب البازي
مانت-لا-جولي – بعد نصف قرن من المسيرة الخضراء المجيدة التي انطلقت يوم 6 نونبر 1975، ما تزال هذه الملحمة الوطنية تلهب مشاعر المغاربة داخل الوطن وخارجه، وتغذي روح الانتماء والوحدة في قلوبهم.
فقد شهدت مدينة مانت-لا-جولي الفرنسية، يوم السبت 8 نونبر 2025، توافد آلاف المغاربة المقيمين في فرنسا للمشاركة في احتفالات ضخمة تخليدًا للذكرى الخمسين لهذه الملحمة التي صنعت منعطفًا تاريخيًا في مسار استرجاع الأقاليم الجنوبية للمملكة.

في مشهد يفيض بالفخر والحنين، ارتفعت الأعلام المغربية إلى جانب العلم الفرنسي، وترددت الأناشيد الوطنية والهتافات الممجدة للوطن. انطلقت المسيرة الرمزية من ساحة سانت-آن بمشاركة أكثر من مائة دراجٍ ناري وثلاث شاحنات مزينة وحافلة ومئات المشاركين القادمين من مختلف مناطق فرنسا، متوجهين نحو منتزه ميشال-سيفان للمعارض، حيث أقيمت حفلات موسيقية وورشات وعروض تاريخية توثق مسار المسيرة الخضراء منذ الدعوة التاريخية للمغفور له جلالة الملك الحسن الثاني إلى غاية الاعتراف الدولي الراهن بمغربية الصحراء.
احتفال شعبي ورسالة وطنية
الحدث، الذي نظمته جمعيات مغربية بفرنسا، جمع بين البعد الاحتفالي والتأمل الرمزي في مسار وطنٍ موحد حول قضيته الوطنية الأولى. وتناوب على منصة الاحتفال فنانون مغاربة من الجيلين الأول والثاني، من بينهم عائشة مايا، عبد الحق أزرو، مصطفى البركاني، خالد العلوي وأوركسترا أراز، إلى جانب الفرق الفولكلورية دقة الكتبية، عرفة وأحيدوس التي أضفت على الحدث أجواء مغربية أصيلة.

ورأى المشاركون في هذا اللقاء تعبيرًا عن الوفاء للوطن وتجديدًا للعهد مع رمزية المسيرة الخضراء.
«المسيرة الخضراء ليست مجرد حدث في الذاكرة، إنها مدرسة في الوطنية والوحدة»، يقول أحد المشاركين من مدينة مراكش، مضيفًا: «نحتفل اليوم بمغربٍ متجدد، متجذر في تاريخه وواثق في مستقبله».
كلمة القنصل العام للمملكة: روح وطنية متجددة
في كلمة مؤثرة، أكد القنصل العام للمملكة المغربية في بونتواز، السيد مصطفى بوعزاوي، أن هذا التجمع الشعبي يعكس عمق ارتباط الجالية المغربية ببلدها الأم واعتزازها بانتمائها الوطني.
«هذا اليوم يجسد الحيوية والتلاحم الذي يميز جاليتنا المغربية في فرنسا، المتمسكة بهويتها ووفائها لوطنها الأم، والمنفتحة في الوقت ذاته على قيم بلد الاستقبال»، قال القنصل العام.

«بعد خمسين سنة على المسيرة الخضراء، ما زال روحها يعيش فينا جميعًا. فالوحدة، والسلم، والتنمية التي دعا إليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، تتجلى اليوم في مبادرات أبناء الجالية وفي التزامهم الراسخ بالدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة وتمثيل صورة المغرب الحديث والمستقر».
وقد لاقت كلمته تفاعلًا واسعًا وتصفيقًا من الحضور، لما حملته من رسالة فخر ووفاء تؤكد الدور المتزايد للجالية المغربية في تعزيز إشعاع الوطن ودبلوماسيته المواطِنة.
تزامن رمزي مع اعتراف دولي متجدد
جاءت هذه الاحتفالات بعد يومين فقط من الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، وفي أجواء دبلوماسية متميزة عقب صدور القرار 2797 لمجلس الأمن الدولي، الذي أعاد التأكيد على دعم مقترح الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية كحلٍّ جادٍّ وواقعي لقضية الصحراء.

ويرى متابعون أن هذا التزامن يعزز البعد الرمزي للاحتفالات، ويُترجم نجاح الدبلوماسية المغربية بقيادة جلالة الملك محمد السادس في ترسيخ مشروعية الموقف المغربي ومصداقيته الدولية.
«الاحتفاء بالمسيرة اليوم هو أيضًا احتفاء بانتصارات المغرب على الساحة الدولية»، يقول أحد المنظمين. «نحن هنا لنؤكد أن الصحراء في قلب كل مغربي، أينما كان».
مانت-لا-جولي.. جسر الذاكرة والانتماء
اختيار مدينة مانت-لا-جولي لم يكن اعتباطيًا، فهي تعدّ من أبرز المدن الفرنسية التي تحتضن جالية مغربية كبيرة، إذ تضم أكثر من 156 ألف مغربي في الدائرة القنصلية، وتمثل نموذجًا للتعايش والانفتاح.

وخلال اليوم الاحتفالي، توافدت الأسر والأطفال في أجواء من الفرح الوطني، وتزينت الأروقة بصور توثق محطات المسيرة، وشهادات لأجيال عايشتها عن قرب.
بين الذاكرة والمستقبل
بعد مرور نصف قرن، ما تزال المسيرة الخضراء تشكل نبراسًا للوحدة والالتزام الوطني، ومصدر إلهام لجيل جديد من المغاربة المهاجرين الذين يسعون لنقل روحها إلى أبنائهم.
«نريد لأطفالنا أن يعرفوا معنى المسيرة الخضراء، وأن يتشربوا قيمها في حب الوطن والوفاء له»، تقول سيدة مغربية شاركت في المسيرة وهي ترفع العلم الوطني بفخر.

في شوارع مانت-لا-جولي، لم تكن المسيرة مجرد ذكرى.. كانت نبضًا حيًا لوطنٍ واحدٍ في القلوب والعقول، وطنٍ يؤمن بأن الصحراء مغربية، وبأن روح المسيرة الخضراء باقية ما بقيت الأجيال.