المغرب يدخل مرحلة جديدة في مسار الحكم الذاتي: من المقترح السياسي إلى المشروع الوطني المتكامل

القنيطرة – بقلم بوشعيب البازي

بعد سنوات من العمل السياسي والدبلوماسي المكثف، وخطوات متدرجة في إطار تعزيز السيادة الوطنية وحماية الوحدة الترابية، دخل المغرب مرحلة جديدة في مسار مبادرة الحكم الذاتي بالصحراء، عقب اعتماد مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2797. مرحلة يمكن وصفها بالمفصلية، لأنها تنقل المبادرة من خانة المقترح السياسي إلى مستوى المشروع الوطني المتكامل، الذي يجمع بين البعد السيادي، والتنمية المستدامة، والمقاربة التشاركية.

من القرار الأممي إلى الإجماع الوطني

اعتماد القرار الأممي الجديد لم يكن مجرد محطة دبلوماسية عادية، بل شكل اعترافًا إضافيًا بمصداقية المقترح المغربي كحلٍّ واقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء. وقد أعقب هذا التطور الدولي اجتماعٌ وطني جمع بين قيادة الدولة ومختلف الأحزاب السياسية، في مشهدٍ غير مسبوق يؤكد أن تطوير مبادرة الحكم الذاتي لم يعد شأنًا حكوميًا فحسب، بل مسؤولية وطنية جامعة.

فالمقاربة الجديدة التي يتبناها المغرب تقوم على الانفتاح على جميع الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، لإعادة صياغة المبادرة بما يعكس التحولات الإقليمية والدولية، ويستجيب لتطلعات السكان المحليين في الأقاليم الجنوبية. إنها لحظة تؤشر إلى نضج التجربة السياسية المغربية في إدارة القضايا الكبرى عبر الحوار الوطني الشامل بدل القرارات الفوقية.

مقاربة تشاركية برؤية تنموية

لم يعد الأمر مقتصرًا على تحسين الصياغة السياسية للمبادرة، بل يتعدى ذلك إلى وضع استراتيجية شاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تشمل البنية التحتية، والتعليم، والصحة، والاستثمار، وتمكين الشباب والمرأة. فالمبادرة المحدثة تهدف إلى جعل الحكم الذاتي نموذجًا للتنمية المتكاملة، لا مجرد تسوية سياسية.

في هذا السياق، تمثل التنمية المحلية حجر الزاوية في التصور الجديد، إذ تسعى الدولة إلى تعزيز قدرات الأقاليم الجنوبية على خلق الثروة وفرص العمل، مع ضمان توزيع متوازن للموارد ورفع مستوى الخدمات العمومية. الهدف هو بناء نموذج مغربي خاص في التدبير الجهوي، يستند إلى الجهوية المتقدمة كإطار عملي لتطبيق الحكم الذاتي، ويعتمد على تمكين المجالس المحلية والمجتمع المدني من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار.

الإطار القانوني والسياسي: بين السيادة والانفتاح

تبقى السيادة الوطنية المبدأ الثابت الذي يؤطر كل عملية تحديث للمبادرة. فالمشروع المغربي الجديد يسعى إلى وضع تصور قانوني واضح لإدارة الأقاليم الجنوبية في إطار القانون الوطني، مع مراعاة الخصوصيات المحلية، وتوسيع صلاحيات الهيئات المنتخبة بما يحقق توازنًا دقيقًا بين المركز والجهة.

وبقدر ما يشكل القرار الأممي الأخير اعترافًا بواقعية المقترح المغربي، فإنه يحمّل المملكة مسؤولية مضاعفة لتقديم نسخة محدّثة من المبادرة، تُظهر قدرتها على الجمع بين الاستقرار السياسي، والتنمية الاقتصادية، والانسجام الاجتماعي.

أفق دبلوماسي جديد

المرحلة المقبلة ستكون دبلوماسية بامتياز، إذ يتعين على المغرب تنشيط شبكة علاقاته الدولية لتعزيز الدعم للمبادرة المحدثة، وتثبيت قناعات الشركاء الإقليميين والدوليين بجدواها. فالمبادرة، في بعدها الخارجي، ليست فقط حلاً للنزاع، بل رسالة سياسية متقدمة إلى العالم، مفادها أن المغرب يتعامل مع ملف الصحراء بعقلانية وواقعية، بعيدًا عن الشعارات والمزايدات الإيديولوجية.

كما أن هذا التوجه الجديد يكرس صورة المغرب كدولة قادرة على تطوير حلول أفريقية لمشاكل أفريقية، ويضعها في موقع الريادة الإقليمية من خلال نموذجٍ متوازن يجمع بين السيادة والتعاون.

من المقترح إلى التطبيق

يدخل المغرب اليوم مرحلة التفصيل والتطبيق، حيث سيتم تحويل المبادرة من وثيقة سياسية إلى مشروع وطني متكامل يشارك فيه الجميع: الدولة، الأحزاب، المجتمع المدني، والمنتخبون المحليون. هذه التعبئة الشاملة تعكس وعيًا جماعيًا بأن نجاح الحكم الذاتي لا يتوقف على النصوص، بل على إرادة التنفيذ الجماعي.

فكل مقترح أو تعديل جديد يجب أن يأخذ في الاعتبار الجوانب القانونية والتنموية والاجتماعية، بما يضمن أن تبقى المبادرة وفية لجوهرها: حل مغربي، تحت السيادة المغربية، بأدوات مغربية.

نحو نموذج مغربي للحلول الواقعية

من خلال هذه الدينامية الجديدة، يقدم المغرب نموذجًا فريدًا للحلول السياسية الواقعية في إفريقيا والمغرب العربي. إنه نموذج يقوم على الحوار بدل الصراع، وعلى التنمية بدل الخطاب العدائي، وعلى المشاركة بدل الانفراد.

المرحلة الحالية ليست مجرد تطور في ملف الصحراء، بل تتويج لمسار طويل من البناء الوطني، يؤكد أن المغرب دخل عهدًا جديدًا من الثقة في الذات، والإرادة في صنع المستقبل بواقعية سياسية ورؤية تنموية شاملة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com