على مدى نصف قرن، لم تتوقف الجزائر عن تقديم نفسها باعتبارها «الحصن الأخير» للمبادئ الثورية، الدفاع غير المشروط عن فلسطين، العداء للإمبريالية الغربية، الثبات على إرث بومدين ورمزية «جبهة الصمود». لكن مشاهد الأسابيع الأخيرة تكشف عن قصة مختلفة تماماً؛ قصة انعطافة سياسية عميقة، تكاد تكون انقلاباً على هوية دبلوماسية كاملة، في محاولة يائسة لكسر العزلة الخارجية واستعادة موقع مفقود أمام الصعود المغربي في واشنطن وإفريقيا.
جاءت الشرارة من واشنطن نفسها. ففي مؤتمر نظمه مركز ستيمسون، تلقى السفير الجزائري صبري بوقادوم سؤالاً واضحاً حول احتمال دفع الولايات المتحدة الجزائر نحو التطبيع مع إسرائيل. كانت إجابته قصيرة، لكنها زلزال دبلوماسي بكل المقاييس: «كل شيء ممكن».
هذه الجملة التي نُطقت بلا توتر ولا تردد، كانت أقوى من أي بيان رسمي. لقد فتحت الباب أمام قراءة واحدة: لم يعد التطبيع محرماً في الجزائر.
من «مع فلسطين ظالمة أو مظلومة»… إلى «كل شيء ممكن»
المفارقة الصادمة أن هذه العبارة تتعارض جذرياً مع شعار ظلت الجزائر تصدّره عقوداً إلى العالم العربي. فمنذ الستينيات، كانت فلسطين ركيزة خطابات النظام، إحدى «الأساطير المؤسسة» التي تُستحضر في كل محفل داخلي لتبرير مشروعية الحكم.
لكن تغير السياق، وازدادت العزلة، وبدأت أوراق القوة التقليدية تتساقط. وهكذا وجدت الجزائر نفسها أمام واقع جيوسياسي لا يرحم:
- روسيا، شريكها العسكري التاريخي، غارقة في حرب تستنزفها.
- تأثيرها في الساحل يتآكل يوماً بعد آخر.
- أوروبا تنظر إليها بريبة وتوجس.
- والولايات المتحدة، في زمن «الترامبية» المتجددة، ترى في المغرب شريكها الأكثر موثوقية واستقراراً.
أمام هذا المشهد، يبدو أن الجزائر قررت تغيير خطابها من دون إعلان رسمي، أملاً في إعادة بناء علاقة مع واشنطن ولو على حساب «الثوابت».
التصويت الصادم… و«الانحناء» أمام قرار أمريكي
ما فعله النظام الجزائري داخل مجلس الأمن شكّل دليلاً إضافياً على هذا التحول. فقد صوتت الجزائر بـ«نعم» لصالح قرار أمريكي بشأن غزة، في وقت رفضته حركة «حماس» نفسها. كان بإمكانها الامتناع، كما فعلت روسيا والصين، لكنها اختارت دعم القرار.
يشير هذا السلوك إلى لحظة مفصلية: الجزائر تتخلى، لأول مرة منذ عقود، عن عقيدتها المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل في إحدى أكثر القضايا حساسية بالنسبة إليها.
هذا التصويت، في حد ذاته، ليس مجرد مناورة دبلوماسية، بل تجسيد لحالة ارتباك عميق في النظام الذي يحاول إرسال إشارات حسن نية إلى واشنطن، بعد أن أصبحت تهديدات فرض عقوبات بسبب شراء الأسلحة الروسية واقعا قائما، لا مجرد ضغط كلامي.
بوقادوم… والهجوم المنظم على واشنطن
وراء هذا التحول يقف صبري بوقادوم، الدبلوماسي المخضرم الذي يخوض منذ أشهر حملة مدروسة لتحقيق اختراق لدى الإدارة الأمريكية.
- شراء مساحات إعلامية في الصحافة الأمريكية.
- توقيع مذكرة تفاهم عسكرية غير مسبوقة.
- تشكيل مجموعات عمل لدراسة صفقات أسلحة أمريكية.
كل هذا يعطي انطباعاً بأن الجزائر تسعى لـ«انسلاخ» تدريجي من إرثها الروسي، والتقرب من الولايات المتحدة بأي ثمن.
شبكات ترامب… والبحث عن موطئ قدم
لم يقتصر التحول على السفارة في واشنطن. في باريس، قام شمس الدين حافظ، عميد جامع باريس الكبير، والمقرّب من دوائر تبون، بخطوة لا تقل رمزية، استقبال تشارلز كوشنر، السفير الأمريكي في فرنسا ووالد جاريد كوشنر، مهندس اتفاقات أبراهام.
الرسالة واضحة: الجزائر تحاول الاقتراب من الشبكات التي دفعت المغرب إلى الصفوف الأمامية في واشنطن عام 2020.
انحناءات متتالية… وصمت داخلي مطبق
ما يثير الملاحظة أكثر هو حجم التراجع الذي يجري بسرية وبلا أي توضيح للشعب. ففي الداخل، يستمر النظام في ترديد خطاب ثوري عن المقاومة ومناهضة الإمبريالية. لكن في واشنطن، لغة أخرى تماماً: لغة انفتاح، وتنازلات، و«استعداد للتعاون» مع إسرائيل والولايات المتحدة.
هذه الازدواجية تشكل المفارقة الكبرى: الجزائر تريد السلام مع واشنطن ومع إسرائيل، وربما حتى مع المغرب، لكنها ترفض إعلان ذلك.
هوسٌ بالمغرب… وتغيير العقيدة لكسر التوازن الجديد
منذ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على صحرائه في 2020، والنظام الجزائري يعيش حالة من القلق السياسي. فهو يدرك أن واشنطن تنظر إلى الرباط باعتبارها حجر الزاوية في استراتيجيتها المغاربية. ولهذا، فإنّ كل هذا الحراك الجزائري يهدف قبل كل شيء إلى منافسة المغرب داخل واشنطن، حتى لو تطلب الأمر التخلي عن مواقف كانت تُعتبر «خطاً أحمر».
أكبر خيانة ليست تجاه فلسطين… بل تجاه الشعب الجزائري
المفارقة المؤلمة أن الجزائر، التي تبنّت لسنوات خطاباً ثورياً صارماً، هي نفسها التي تتخلى اليوم عن هذا الخطاب في الغرف المغلقة، بينما تواصل بيع الوهم للشعب. مشهد سلطة تقول شيئاً في الإعلام الرسمي، وتفعل نقيضه في واشنطن، يجعل هذا التحول أشبه بانقلاب صامت في السياسة الخارجية.
قد تتجه الجزائر إلى تطبيع «ناعم» مع إسرائيل، وقد يكون ذلك ضرورياً لكسر عزلتها. لكن الخيانة الحقيقية ليست في تغيير المواقف، بل في عدم الجرأة على إعلانها للشعب.
فالتاريخ لا يرحم الأنظمة التي تبني سياستها على تناقض بين ما تقوله لشعبها… وما تفعله في الواقع.