الحكم الذاتي… حين تتحول المبادرة المغربية إلى اختبار نضج وطني

بقلم : بوشعيب البازي

لم يعد مشروع الحكم الذاتي الذي يقترحه المغرب على أقاليمه الجنوبية مجرد ورقة تفاوضية تُرفع في المحافل الدولية، بل بات اليوم جزءاً من نقاش استراتيجي داخلي، يمتح من الدستور ومن الثوابت الجامعة للأمة، كما يعبّر عن انتقال تنظيمي عميق في فهم الدولة المغربية لمعنى اللامركزية المتقدمة ودور الأقاليم في صناعة القرار. هذا ما عكستْه مداخلة الأمين العام لحزب الاستقلال نزار بركة خلال اجتماع المجلس الوطني للحزب، حيث بدا أن اللحظة ليست تقنية بقدر ما هي لحظة إعادة تعريف لـ”المشروع المجتمعي” الذي ترتبط به مبادرة الحكم الذاتي.

حزب الاستقلال… قراءة في لحظة سياسية غير اعتيادية

بركة أعاد ترتيب النقاش من مستوى “الحل السياسي” إلى مستوى “الثابت الدستوري”. فالحكم الذاتي، وفق رؤيته، ليس تنازلاً سيادياً ولا حلاً وسطاً، بل امتداد طبيعي لقواعد الهوية الدستورية للمملكة، تلك القائمة على وحدة التراب، وتماسك المجتمع، وفعلية الحقوق والحريات.

بهذا التوصيف، يصبح الحكم الذاتي خيار دولة، لا مبادرة ظرفية. وتتحول الأقاليم الجنوبية إلى نموذج مُعزّز للجهوية المتقدمة، بما تفتحه من اختصاصات موسَّعة للهيئات المحلية، وفق مبادئ التفريع والتدبير الحر، وفي سياق يربط التنمية بالعدالة الاجتماعية، والمواطنة بالكرامة، والمؤسسات بالكفاءة.

زخم دبلوماسي… ووعي حزبي بضرورة المساهمة

رئيس المجلس الوطني للحزب، عبد الجبار الرشيدي، التقط خيط التحليل ذاته، مؤكداً أن السياق الدولي يمنح زخماً إضافياً لمقترح الحكم الذاتي، في لحظة تتراكم فيها الاعترافات والدعم الأممي لجدية هذا الطرح. لكن الرشيدي ذكّر أيضاً بأن السياق الاجتماعي الداخلي يمتلك تحدياته الخاصة، من قدرة على توزيع الثروة إلى إعادة بناء الثقة داخل المجتمع.

الرسالة واضحة: لا يمكن أن يظل الملف حكراً على الدبلوماسية. هو ملف مجتمع، وأحزاب، وخبراء، ونخب محلية، لأنه جزء من مسار تاريخي طويل يسعى المغرب فيه إلى حسم نزاع مفتعل بعمق وشرعية واستدامة.

اجتماع استثنائي… وبداية مرحلة جديدة

هذا التحول في النقاش الوطني تسارَع منذ اجتماع 12 نوفمبر الماضي الذي جمع ثلاثة من مستشاري الملك محمد السادس بزعماء الأحزاب السياسية، من أجل تحيين وتفصيل مخطط الحكم الذاتي، بعد القرار التاريخي الأخير لمجلس الأمن. الاجتماع كان مؤشراً على دخول الملف مرحلة جديدة: مرحلة التفصيل لا المبدأ، ومرحلة بناء تصور وطني مشترك، لا مجرد إعلان مواقف عامة.

في هذا السياق، قدم حزب الاستقلال، يوم 21 نوفمبر، مذكرة مفصلة إلى الديوان الملكي، تقترح تدرجاً في تنزيل الحكم الذاتي، بما يتيح اختبار الآليات المؤسساتية والإدارية الجديدة، وضمان نجاعة المنظومة وتوافقها مع روح الدستور ومصالح الدولة.

الاندماج والمصالحة… شرط النجاح وليس مجرد شعار

من بين النقاط التي شدد عليها نزار بركة بوضوح، فكرة الإدماج والمصالحة، وخاصة إدماج المغاربة العائدين من مخيمات تندوف، وتمكينهم من المشاركة الفعلية في القرار المحلي والحياة العامة. هنا لا يبدو الحزب بصدد الحديث عن “دمج تقني”، بل عن معالجة تراكمات الماضي وبناء ثقة جديدة داخل المجتمع المحلي، وهو عنصر غالباً ما تغفله التحليلات التقنية.

الثغرة التي لم تُسد بعد: أين الكفاءات؟

التحليل الذي قدّمه الخبير السياسي رشيد لزرق يضيف زاوية أخرى للنقاش. فهو يرى أن قوة المذكرة الاستقلالية تعود إلى حضور أطر قانونية ودبلوماسية وأكاديمية داخل الحزب، إلا أن الإشكال الأكبر — داخل حزب الاستقلال وغيره — يكمن في ضعف التمكين الداخلي لهذه الكفاءات، وغياب آليات مؤسساتية للاستفادة من خبرتها.

الفكرة هنا ليست نقداً حزبياً، بل نقد بنيوي للمشهد السياسي المغربي: الأحزاب تشارك، لكن المشاركة لا تزال سطحية من حيث العمق البحثي والمقاربة المقارنة، في ملف هو في الأصل ملف قانوني–دستوري–تنموي مركب، لا يحتمل الخفة أو الارتجال.

المقاربة الملكية… إشراك لا يستثني أحداً

اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال نوهت بالمقاربة التشاركية التي اعتمدها الملك محمد السادس في هذا الملف، عبر دعوة الأحزاب والقوى الحية لتقديم رؤاها التفصيلية حول نموذج الحكم الذاتي. هذه الإشارة ليست بروتوكولية، بل تعكس رؤية واضحة: المغرب يريد بناء مبادرة مستقبلية تُكتب جماعياً، وتُناقش علمياً، وتُصاغ بمنطق الدولة لا بمنطق الانتماء الحزبي.

 الحكم الذاتي ينتقل من “المبادرة” إلى “السياسة العامة”

من خلال المعطيات المتراكمة، يبدو واضحاً أن المغرب مقبل على مرحلة مفصلية في تدبير ملف الصحراء. فالحكم الذاتي لم يعد مجرد صيغة سياسية للتفاوض، بل ــ كما يظهر في خطاب الأحزاب وفي التوجيهات الملكية ــ تحول إلى سياسة عامة قيد البناء، وإلى مشروع تحديث للدولة نفسها، من خلال تعميق الجهوية المتقدمة، وتوسيع المشاركة المواطِنة، وبناء مؤسسات محلية قادرة على صناعة القرار، وتنزيل التنمية بعدالة على كامل ربوع الوطن.

بمعنى آخر:

الحكم الذاتي لم يعد “نهاية نزاع”، بل “بداية نموذج”.

نموذج تتقاطع فيه السيادة، والتنمية، والهوية الوطنية، والديمقراطية المحلية.

ونموذج يُنتظر من الأحزاب — وعلى رأسها حزب الاستقلال — ألا تكتفي بإغنائه بالتصورات، بل أن تؤسس له خبرة وطنية قادرة على تحويله إلى مشروع دولة ناجع ومستدام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

This site is protected by wp-copyrightpro.com